بين منهجين "49"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
بعد أن تكلّمنا عن الموجب الأوّل لجماعات الجهاد، ألا وهو إقامة دولة
الإسلام فالآن إلى الموجب الثّاني:
ومن عمد موجبات جماعات الجهاد
في العالم الآن وللتّو هو: فكّ العاني (الأسير)، ونصرة المظلوم، وردع
الظّالم:
المتمعّن لقصص الأنبياء في القرآن الكريم يجد للأنبياء
عليهم السّلام قضيّة محوريّة يلتقون حولها جميعاً، ويدعون النّاس إليها، ألا
وهي كلمة التّوحيد، ثمّ إنّنا نرى كذلك أنّ النّبيّ كان يأتي ويحمل قضيّة أو
قضايا مهمّة مع التّوحيد، وكانت تشكّل هذه القضيّة الأخرى امتحاناً لموضوع
الاستجابة لألوهيّة الله على عباده، فلوط عليه السّلام كان مع دعوته للتّوحيد
داعياً إلى التّخلّص من الرّذائل الخلقيّة المعروفة مثل إتيان الذّكران
والتّبارز بالضّراط في المجالس، وهي التي قال فيها الرّب سبحانه وتعالى:
{وتأتون في ناديكم المنكر}، فهذه القضايا التّشريعيّة تشكّل الامتحان لمدى
الاستجابة لكلمة التّوحيد، ولقضيّة تأليه ربّ العالمين.
وقد حدّثنا
القرآن الكريم كثيراً عن موسى عليه السّلام، وتكرّرت أحاديث القرآن عن هذا
النّبيّ العظيم، وهو من أولي العزم من الرّسل، وكانت قضيّة التّوحيد هي مدار
دعوته، وحمل معها قضايا مهمّة أخرى، ومن أهمّ هذه القضايا التي نازع موسى
عليه السّلام الأرباب الباطلة بها هي إخراج بني إسرائيل من حكم الطّاغية: قال
تعالى: {ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر
كيف كان عاقبة المفسدين، وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين، حقيق
على أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني
إسرائيل} الأعراف.
وقال تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنّه طغى، فقولا له
قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى، قالا ربّنا إنّ نخاف أن يفرط علينا أو
يطغى، قال لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى، فأتياه فقولا إنّا رسولا ربّك
فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم قد جئناك بآية من ربّك وسلام على من
اتّبع الهدى} طه.
ثمّ حكى الله تعالى هذه القضيّة في سورة الشّعراء
آمراً موسى وهارون عليهما السّلام: {فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ
العالمين، أن أرسل معنا بني إسرائيل}.
فهذه قضيّة حكاها القرآن الكريم
في ثلاثة مواطن، قضيّة إخراج بني إسرائيل المعذّبين من حكم فرعون الطّاغية،
وهي كذلك ههنا في هذا العصر، قضيّة مهمّة، عظيمة القدر؛ قضيّة إخراج المساجين
والأسرى والمعتقلين من سجون أهل الكفر والشّرك، ومن سجون
المرتدّين.
والسّجن هو إحدى صور العذاب التي يمارسها الطّغاة ضدّ
الموحّدين، قال تعالى على لسان فرعون: {لئن اتّخذت إلهاً غيري لأجعلنّك من
المسجونين} الشّعراء، وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}
الأنفال.
وههنا نكتة بديعة على الأنبياء، وهم أعظم النّاس قدراً
وأرفعهم منزلة وأوثق النّاس بربّهم، هذا الفعل هو الهروب والتّخفّي، فموسى
عليه السّلام خرج من مصر في أوّل الأمر {خائفاً يترقّب} ثمّ خرج ببني إسرائيل
على وهدة من عيون فرعون وقومه، وكذلك خروج محمّد صلى الله عليه وسلم من مكّة
متخفّياً خوفاً من قريش وبطشها، ولم يعتبر هذا الصّنيع قادحاً في حقّ هؤلاء
الأنبياء، أو بخادش رجولتهم وعصمتهم وعظمتهم، وأقول هذا الكلام تنبيهاً على
ما سمعت أنّ بعض قادة الأحزاب الإسلاميّة الدّيمقراطيّة أنّه لمّا عرض عليه
الهرب وقد حضر جند الطّاغوت للقبض عليه في مقرّ حزبه أنّه أنِف هذا الفعل،
واعتبره خادشاً لشرعيّة وجوده، وقال: أنا رئيس حزب شرعيّ ولست لصّاً حتّى
أهرب، ولعلّه كذلك أنِف وترفّع أن يتدلّى بحبل من مكتبه ليخرج من الشّبّاك
حتّى لا يقبض عليه جند الطّاغوت، وهذه النّفسيّة هي مصيبة ولا شكّ، فهي تدلّ
على أنّ قادة العمل الإسلاميّ الدّيمقراطيّ هم أبعد النّاس عن نفسيّة الرّجل
المقاتِل، أو نفسيّة الرّجل الواعي لطبيعة الصّراع بين الحقّ
والباطل.
فالسّجن أحد أساليب الطّغاة في ردع الدّعاة والمصلحين،
والسّجون الآن تعجّ بكثرة الموحّدين فيها، وقد تبجّح الكفر الآن وعربد بما لم
يكن له مثيل بيومٍ من الأيّام، فما هو السّبيل الشّرعيّ والكونيّ لردع هؤلاء
المجرمين عن غيّهم؟! وما هو الطّريق الشّرعيّ والكونيّ لإخراج هؤلاء المساجين
من معاقل الطّغاة؟ إنّه ولا شكّ الجهاد في سبيل الله تعالى.
وفكّ
العاني واجب شرعيّ على المسلمين حيث وقع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فكّوا
العاني وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) رواه البخاريّ عن أبي موسى رضي الله
عنه. قال ابن حجّر: قال ابن البطّال: فكاك الأسير واجب على الكفاية وبه قال
الجمهور. ا. هـ. فتح الباري (6/193). ويقول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:
(لئن أستنقذ رجلاً من أيـدي الكافرين أحبّ إليّ من جزيرة العرب). ورويَ أنّ
الحجّاج بن يوسف الثّقفي غضب على واليه في السّند غضباً شديداً، وذلك بسبب
امرأة أسرت من المسلمين وأدخلت إلى بلاد السّند فجهّز الجيوش المتواصـلة،
وأنفق بيوت الأموال حتّى استنقذ المرأة وردّها إلى أهلها ومدينتها. عن
الموالاة والمعاداة (1/327).
وفكّ العاني المسلم هي صورة من صورة
الولاء بين المسلم وأخيه المسلم.
وليعلم أنّ ما يعانيه المسلم السّجين
هو شيء يفوق الوصف والخيال، حتّى أنهم قديماً كانوا يعدّون السّجين كأنّه
منفيّ من الأرض، وأنّه خارج الحياة. يقول الشّاعر:
إذا جاءنا السّجّن يوماً لحاجـة * عجبنا وقلنا جاء هذا من
الدنيا؟
والحضارة الشّيطانيّة المعاصرة ابتكرت من الأساليب
الوحشيّة لتعذيب خصومها شيئاً يفوق الخيال، وليس سجين اليوم هو مجرّد رجل
محبوس في جبّ فقط، مع أنّ مجرّد هذا الحبس هو عذاب شديد، ولكنّهم يمارسون على
هذا السّجين ألوان العذاب وصنوف القهر ما الله به عليم، فإذا علمنا هذا تبيّن
لنا الواجب الشّرعيّ الملقى على عاتق الأمّة في تخليص هؤلاء الأسارى، جاء في
"القوانين" لابن الجوزي: يجب استنقاذهم (أي الأسارى) من يد الكفّار بالقتال،
فإن عجز المسلمون عنه وجب عليهم الفداء بالمال. (ص172).
قال ابن
تيميّة في الرّسالة الماتعة المسمّاة بـ "الرّسالة القبرصيّة"، يدعو فيها
صاحب قبرص إلى الإحسان إلى أسارى المسلمين عنده، ويبيّن سعيه الجادّ في
استخلاص أسارى المسلمين بل وأسارى أهل الذّمّة يوم ذاك، قال: وقد عرفت
النّصارى كلّهم أنّي لمّا خاطبت التّتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم قازان...
فسمح بإطلاق المسلمين، ثمّ بيّن بعدها طلبه في إطلاق أسارى أهل
الذّمّة.
هذه النّصوص وغيرها تبيّن مدى الواجب الملقى على المسلمين في
إطلاق أسارى المعتقلين والمساجين من سجون المشركين والمرتدّين، ولقد بلغ عدد
الموحّدين الذين نقم منهم الطّاغوت طهرهم وعفافهم وإيمانهم بالله تعالى
الأعداد الكبيرة، ففي مصر لوحدها عدد المساجين من الجماعات المسلمة في سجون
الطّاغوت المصريّ أكثر من خمسين ألف سجين، علاوة على أولئك الشّباب الذين ما
يكاد الواحد منهم يخرج حتّى تدركه مسالحة (شرطة) الشّرك وتعيده مرّة أخرى،
وههنا نقطة مهمّة، وهي أنّ المسلم المجاهد عليه أن يسعى إلى عدم تسليم نفسه
إلى مسالحة المشركين الملاعين في بلادنا، بل عليه أن يسعى جهده أن يفرّ منهم
وإلاّ فليقاتل حتّى يقتل، ووالله قد سعدت وفرحت أشدّ الفرح لهذه السّابقة
العظيمة التي وقعت في الأردن من قبل الشّابّ المجاهد - نحسبه من الشّهداء ولا
نزكّي على الله أحداً - محمود عبد الرّؤوف خليفة وشقيقه بشّار الذي أبى أن
يسلّم نفسه لزوّار الفجر المشركين من المخابرات الأردنيّة اللعينة، بل قاومهم
حتّى سقط شهيداً إن شاء الله، ووالله إنّ قتال هؤلاء المرتدّين أحبّ وأفضل من
قتال اليهود، لأنّه لم يقع لليهود علينا سلطة، ولم يكن لهم علينا سبيل، إلاّ
بحبل هؤلاء المرتدّين الزّنادقة، وهذه السّابقة التي وقعت في الأردن في عدم
الرّضوخ لتسليم الشّباب المسلم أنفسهم للطّاغوت هي بشرى خير، وهو أنّ هؤلاء
الشّباب أتقنوا المسألة، وقد مضت إن شاء الله تعالى تلك الأيّام التي كان
الشّباب المسلم المجاهد في الأردن يسلّم نفسه إلى المخابرات طوعاً واختياراً،
ولعلّ الأهوال التي كان يراها المعتقلون من المسلمين في مبنى المخابرات
العامّة هو الذي ردّ الفكرة إلى رؤوسهم: أنّ الموت أفضل بدرجات من أن يساق
المسلم كالذّبيحة إلى مسلخه، وقد كان هؤلاء الزّنادقة المرتدّون يدخلون
الشّباب المعتقل وهم يتهازجون أهازيج الفرح وكأنّهم في عرس (عليهم من الله
اللعائن) لكنّها إن شاء الله بعد اليوم لن تكون زيارة الفجر رحلة سهلة لهم.
هذا أملنا وفي الله رجاؤنا، وإنّ تكرار هذه العمليّة سيجعل الذين يفكّرون
بالرّاتب الجيّد في العمل مع المخابرات محسوباً عليهم أنّ روحه ستكون ثمناً
لهذا الرّاتب فها هو الدّم قد سال ومسيل الدّم علامة الفرج وفيه بشرى الإفاقة
إن شاء الله.
وللحديث بقيّة إن شاء الله تعالى..
|