منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "46"
   بين منهجين "46"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

قلنا إنّ الحكم الصّادر عن مجلس الشّعب أو البرلمان لا يسمّى إسلاميّاً وإن كان يلتقي مع الحكم الشّرعيّ في صورته وظاهره، وعلى هذا فلو أنّ مجلس الشّعب قرّر تحريم الخمر على الشّعب فإنّ هذا القرار لا يعدّ إسلاميّاً وإن التقى مع الشّريعة الإسلاميّة في صورة النّهي وتحريم الخمر، وسبب ذلك أنّ الحكم الشّرعيّ لا يكون شرعيّاً إسلاميّاً إلاّ إذا كان تكييفه شرعيّاً إسلاميّاً. وتفصيل ذلك.

حقيقة الحكم الشّرعيّ

إنّ أركان الحكم الشّرعيّ داخلة في تعريفه حيث قال الفقهاء الأصوليّون: إنّ الحكم الشّرعيّ هو: خطاب الله تعالى للمكلّفين بالوضع أو الاختيار أو الطّلب، فأركانه أربعة وهي: الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم. ا. هـ. المستصفى (1/83). فإذا اختلّ ركن من هذه الأركان لا يسمّى شرعيّاً، والحاكم هنا هو الله تعالى، قال الغزاليّ: أمّا استحقاق نفوذ الحكم فليس إلاّ لمن له الخلق والأمر، فإنّما النّافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلاّ الخالق. ا. هـ. (نفس المرجع السّابق). قال الآمدي شارحاً هذا الأمر: الحكم الشّرعيّ ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسّببيّة، بل حكم الشّرع عليه بالسّببيّة. ا. هـ. الإحكام (1/182). وقال الغزالي: فالحكم الشّرعيّ خطاب الشّرع وليس وصفاً للحكم ولا حسن ولا قبيح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشّرع. ا. هـ. المستصفى (1/8) وقول الغزالي خطأ من وجه وهو كون الحكم الشّرعيّ لا يدرك حسنه وقبحه إلاّ بالشّرع، بل الصّحيح يدرك حسنه وقبحه بالعقل. وأمّا قوله: "ولا حكم قبل ورود الشّرع" فهو صواب خلافاً للمعتزلة.

إذاً الحكم الشّرعيّ ليس هو فقط نفس الحكم أي صورة الحكم، بل هو خطاب الشّارع بهذا الحكم، فمن فعل فعلاً لوجه من الوجوه. غير وجه امتثال الشّريعة الإسلاميّة، فإنّ فعله لا يدخل في مسمّى الحكم الشّرعي، فباذل المال للفقراء والمساكين لا يمكن إدخاله في قوله تعالى: {ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا}. لأنّ الله سبحانه وتعالى عقّب بعدها قائلاً: {إنّما نطعمكم لوجه الله} أي أنّهم امتثلوا هذا الأمر لأنّه صادر من الله تعالى، وهم يفعلونه امتثالاً لأمره، ورغبة ممّا عنده، فهؤلاء هم منفّذون للحكم الشّرعيّ، فالحكم الشّرعيّ هو خطاب الله تعالى، وما لم يكن المحكوم منفّذاً الحكم لأنّه أمر الله تعالى فليس هو من النّاجين من عقوبة ترك الأمر أو اقتراف النّهي. والشّارع في دين الله هو السّيّد الحقيقيّ، أي من له حقّ السّيادة على البشر، فهو الخالق لهم وهو الحاكم عليهم، ولذلك من أسماء الله تعالى السّيّد - كما جاء في الحديث الصّحيح - وهو يسمّى كذلك حقّ التأليه، فالإله هو السّيّد، ولا يكون السّيّد مطلقاً حتّى يكون إلهاً حقيقيّاً، ولذلك من مبرّرات اعتقادنا أنّ سيّدنا وإلهنا هو الله، هو اعتقادنا أنّنا ملك له، ولولا هذا الملك الحقيقيّة ما قبلنا سيادته، ومن مقتضيات هذه الملكيّة التي برّرت السّيادة هو إصدار الأوامر التّكليفيّة التي ترتّب عليها إثابة الطّائع ومعاقبة المخالف.

حقيـقة البرلمـان

المنظومة الدّيمقراطيّة على اختلاف صورها تقوم على إسناد حقّ السّيادة لغير الله، وهذه المنظومة منبعثة من العقيدة العلمانيّة التي ترى أنّ النّاس أحرار في إصدار التّشريعات التي يرونها تناسب عقولهم ومعطيات حياتهم، وقد أفرزت العلمانيّة في الدّول المرتدّة في بلادنا قانوناً أوجب سلوك هذا الطّريق، فالشّقّ السّياسي في العقيدة العلمانيّة يفرض اعتقاد وسلوك المنهج الدّيمقراطيّ الذي يرى إسناد حقّ السّيادة للشّعب، ومعنى السّيادة في المفهوم الدّيمقراطيّ هو نفس معنى السّيادة في الدّين الإسلاميّ، حيث يقول دهاقنة القانون الوضعيّ أنّ السّيادة هي: سلطة عليا مطلقة (لا سلطة فوقها) لها الحقّ في تقييم الأشياء والأفعال، وتقييم الأشياء بتحسينها وتقبيحها وتقييم الأفعال بتحليلها وتحريمها.

والمنظومة العلمانيّة هي التي أعطت البرلمان حقّ إصدار التّشريعات، فأركان الحكم الدّيمقراطي هي نفس أركان الحكم الشّرعي أي الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم. والحاكم هو السّلطة التي فوّضها الشّعب (كونه الحاكم الأصلي) في إصدار القوانين، فحين يصدر قانون من البرلمان أو مجلس النوّاب أو مجلس الشّعب فإنّه يكتسب قوّته بكونه صادراً من السّيّد الحاكم، فهو حكم شعبيّ برلمانيّ ديمقراطيّ علمانيّ، أي هو في دين الله تعالى حكم شركيّ طاغوتيّ.

وممّا ينبغي التّنبيه الضّروريّ عليه ههنا هو أنّ الأحكام الصّادرة من البرلمان قد اكتسبت قوّتها من طرفين في البرلمان وليس من طرف واحد، هذان الطّرفان هما الأغلبيّة والمعارضة، فالمعارضة وإن عارضت القانون قبل صدوره إلاّ أنّها ملزمة به بعد إقراره بالأغلبيّة، وهي قد أكسبت القانون قوّة بكونها جزءً في البرلمان المشرّع، فعلاقة الأعضاء في البرلمان (أغلبيّة ومعارضة) علاقة تضامنيّة، فلولا وجود المعارضة لن يكتسب القانون قوّته في المفهوم الدّيمقراطيّ، فالإسلاميّون وإن زعموا المعارضة في البرلمان فهم جزء من المشرّع، والقانون يصدر باسمهم كما يصدر باسم الأغلبيّة المؤيّدة، وهم شركاء في إصدار القرار واكتسابه القوّة الدّستوريّة ليكون شرعيّاً دستوريّاً قانونيّاً، صادراً من الشّعب صاحب السّيادة، فلو صدر قانون إباحة الخمر للنّاس فالإسلاميّون - المعارضة - وغيرهم هم أصدروا هذا القانون كما أصدره الأغلبيّة الموافقة لأنّ علاقة القانون بهم واحدة بعد صدور القانون وإن اختلفت مواقفهما قبل إقرار القانون.

ولو صدر قانون حرمة الخمر للنّاس فلا يجوز أن يقال أنّ الحكومة قد قرّرت تطبيق الحكم الشّرعيّ، لفقده التكييف الشّرعي كما قدّمنا.

العلمانيّون يفهمون هذه المعادلة، فهل حقّاً يجهلها المسلمون الدّيمقراطيّون؟.

إبعاد الحكم الشّرعيّ في الحكم والقضاء مرّ في مراحل متعدّدة، ولا نستطيع في مثل هذه المقالات السّريعة أن نحيط بها إحاطة تامّة ولكن الملاحظ بوضوح هي القضيّة التّالية:

كان الأوائل من دعاة العلمانيّة - فصل الدّين الإسلامي عن الحكم والقضاء - يؤطّرون لنظريّتهم من خلال المصادر الشّرعيّة، فعلي عبد الرزّاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" اعتمد في رؤيته هـذا الفصل على مجموعة رؤى ذاتيّة أسقطها على الكتاب والسّنّة والحقبة النّبويّة والفترة الرّاشدة، فهو ادّعى أنّ الإسلام لا يوجد فيه سلطة زمانيّة تتمثّل بالخلافة والملك والسّلطان، واستدلّ على هذا بالكتاب والسنّة نفسها، فعلي عبد الرّزّاق ومجموعة أخرى تلته في هذا المضمار كانت تقنّن لهذه الرّؤية الكفرية من النّصوص الشّرعيّة، وفعلوا ذلك لعلمهم أنّ أيّ إحلال لغير حكم الله تعالى في هذه المسألة في ذلك الوقت لن يكون مقبولاً بحال من الأحوال، وعلى جميع المستويات، ولمّا صار أمر هذا الفصل حقيقة واقعة، وأينعت ثماره في المجتمعات المتحوّلة قد بدأ العلمانيّون في طرح قضيّتهم على صيغتها الصّحيحة، هذه الصّورة لا تبحث في إشكاليّة فهم الإسلام بنصوصه لهذه القضيّة - علاقة الدّين بالدّولة - ولكن صار الإشكال الآن مطروحاً على صورة واضحة وهي: لمن الحكم؟. أي من له الحقّ في إصدار التّشريعات والقوانين، الله أم الإنسان؟ وفي آخر إصدار لكبار العلمانيين في المجتمعات المتحوّلة تمّ طرح هذه القضيّة كمحورٍ مفصليٍّ بين الإسلام والعلمانيّة. الإسلام مصدره الوضع الإلهي، العلمانيّة مصدرها الوضع البشري. هذان الكتابان هما "العلمانيّة من مفهوم مختلف" للدّكتور عزيز العظمة، والكتاب من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربيّة. والكتاب الثّاني هو "الأسس الفلسفيّة للعلمانيّة" للدّكتور عادل ضاهر من إصدارات دار السّاقي. لندن.. والكتابان يمثّلان عمدة الفكر العلمانيّ وفلسفته، وبنيا أركان المفارقة بين الإسلام والعلمانيّة على هذه القضيّة:

يقول عادل ضاهر: فإذا تبيّن مثلاً، أنّ المعارف المطلوبة لتنظيم المجتمع لا يمكن حتّى من حيث المبدأ اشتقاقها من المعرفة الدّينيّة، إذن على افتراض أنّ هناك نصوصاً قرآنيّة تؤيّد هذا القول بوجود علاقة بين الدّين والدّولة في الإسلام فإنّه سيكون لزاماً علينا في هذه الحالة أن نؤوّل هذه النّصوص على نحو يجعل هذه العلاقة، في أفضل حال، علاقة تاريخيّة لا أكثر وإلا نقع في التّناقض. ا. هـ. (ص12).

ويقول عزيز العظمة: ليس هناك مجال وسط بين العلمانيّة والعداء للعلمانيّة تقطن فيه الدّيمقراطيّة أو العقلانيّة، فهما لا ينفصلان عن أسس العلمانيّة التي أكّدها في معرض ذمّ أمر نقّاد العلمانيّة: الدّعوة إلى التّحرّر من القيود الدّينيّة على المعرفة، وافتراض الكون مستقلاًّ تفسيره، قواه وأنماط انتظامه الخاصّة والحركة غير المنقطعة للطّبيعة والمجتمع، ومقالة التّطوّر المستمرّ الذي ينتفي معه ثبات القيم الأخلاقية والروحية. ا. هـ. (ص310).

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.com