منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "50"
   بين منهجين "50"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

هل السّجن مرحلة ضروريّة للدّاعي؟ وهل هي مرتبة ممدوحة، الداخل فيها خير من غيره بدخول هذه المرحلة؟.

ممّا لا شكّ فيه أنّ طريق الدّعوة محفوف بالمخاطر والابتلاءات، قال تعالى: {أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} العنكبوت. ذلك لأنّ الدّاعي يأتي للنّاس بالجديد من الأمر، ويدعوهم لترك عوائدهم وإيلافهم، بل ويسفّه ما هم عليه من نهج وطريق، وهذا أمر كبير على النّاس، لأنّه يطعن في مسلّماتهم وعظائم عقائدهم، ولهذا فإنّ الدّاعي يجابه بقوّة وعنف، وبسبب هذا الابتلاء تتميّز الصّفوف، ويفيء النّاس إلى مقاماتهم الحقيقيّة دون لبس أو تزوير، فالابتلاء يعرّف مقامات النّاس، والبقاء للصّابر، قال تعال: {وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} السّجدة. قال ابن تيمية - رحمه الله - في تفسيرها: بالصّبر واليقين تنال الإمامة. ا. هـ. فالصّبر يمنع التّهوّر، واليقين يمنع اليأس والقنوط، فالدّاعي له قوّتان تحصّنانه من الخطأ، قوّة تدفعه وهي اليقين، وقوّة تريّثه وهي الصّبر، يقين على الموعود القادم، وصبر على البلاء الواقع، والبلاء والامتحان هما ظاهرة في كلّ الدّعوات، وهي تكتنف المتمرّدين، سواء كان تمرّدهم بحقّ أم بباطل، فليس الأنبياء أو أتباع الأنبياء هم فقط من لقي العنت في سبيل دعوته، بل كلّ من أتى للنّاس بجديد، ولكنّ ما يميّز أهل الحقّ من غيرهم في هذا الباب هو أنّ تعب الأنبياء وأتباعهم هو في سبيل الله {ذلك لأنّه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلاّ كتب لهم به عمل صالح} وأمّا غيرهم فتعبهم وبال عليهم كما قال تعالى: {عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية}، وكما قال تعالى: {إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون، والذين كفروا إلى جهنّم يحشرون} الأنفال، فالابتلاء ظاهرة في مسيرة الدّعوات لأنّ وجود الأعداء هو من مظاهر نصرة الله لأوليائه، قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ} الأنعام، ومظهر من مظاهر اسم الله تعالى: المنتقم. واختلاف النّاس سنّة كونيّة، وكذلك تدافعهم ليتحقّق لكلّ واحد أهدافه التي يسعى إليها، والمعادلة بين الطّرفين بحصول النّصر والهزيمة مبسوطة في القرآن، وما من أمر إلهيّ إلاّ وهو عامل من عوامل النّصر، وما من مخالفة للشّريعة إلاّ عامل من عوامل الهزيمة.

والسّجن هو إحدى مظاهر الابتلاء، وصورة من صور العذاب التي يهدّد بها كلّ طرف الآخر، كما قال فرعون مهدّداً موسى عليه السّلام: {لئنّ اتّخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين} الشّعراء. وقد كان إحدى اختيارات قريش في عذابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الأنفال. لأنّ السّجن صورة من صور العذاب النّفسيّ والبدنيّ، فهو تقييد لإرادة الإنسان، ومانع له من ممارسة مدنيّته وإنسانيّته، ثمّ هو بالنّسبة للدّاعي أشقّ وأتعب لأنّه يفصل بين الدّاعي والمحيط الذي يحتاجه لدعوته، فعمل الدّاعي هو النّور في النّاس، وتعليمهم الخير، وكسب أتباع لدعوته، وترقية لأفراد دعوته في الطّريق، فالسّجن حرمان من هذا كلّه، إذ أنّه يعزل الدّاعي عن محيطه ليمنعه من التأثير والكسب.

وفي هذه الغربة المعاصرة حيث بدأ الدّعاة يدعون إلى الله، وتمّت سنّة المدافعة بين فريق الحقّ وفريق الباطل، وملأ الطّاغوت السّجون بالدّعاة، وتكرّرت صور الابتلاء وإلى الآن، كانت التّجربة الأولى أن دخلت مجموعات السّجون، فماذا صنع فيهم السّجن؟.

كان السّجن وعاءً تشكّل لونه بلون الدّاخل فيه، فبعضهم انتكس ووقع، وهؤلاء على الأغلب قلّة لا يؤبه لها، ولكنّ الأغلب خرج من السّجن وهو يحمل ذكريات الألم والعذاب، وخرج ليكتب للنّاس مذكّرات كربلائيّة مليئة بالبكاء والنّواح، حاول كلّ واصف فيها أن يستدرّ عواطف القرّاء نحوه، وأن يكسب شفقتهم عليه، ووُجد ههنا أدب في داخل المكتبة الإسلاميّة يمثّل هذا النّوع من الفنون، من البكاء والنّواح الكربلائي، وكان القصد من هذا هو تعليق النياشين (الأوسمة) على الصّدور بأنّ هذا قد عذّب وضرب، ولم يخرج وإلى الآن من هذا الصفّ المبتلى دراسة أو دراسات تكون زاداً للجيل القادم من هذه التّجربة، فالسجن بلاء: إمّا أن يكسّر، أو يعصر، أو يثمر فيخرج صاحبه منه منقّى من كلّ الشّوائب، شوائب الأفكار، وشوائب النّفس، فتترقّى مدارك المرء، وتنصقل نفسه في تطوّرها وتربيتها، فالسّجن لا يمدح إلاّ بمقدار استفادة المرء منه، لا من حيث هو في نفسه ممدوحاً مرغوباً، فقد ينتكس المرء فيه، وقد يخرج منه كما دخل جهلاً وعماءً وسوء خلق، وقد يرتقي فيه، وكلّ هذا بحسب المرء ونظره إلى ما تمرّ به الحياة من مظاهر وظواهر، فليس السّجن مرتبة مدحيّة، ولا هو بالذي يطلبه المرء ليكون الأفضل بين أقاربه، ولكن ينظر إلى مقدار اكتساب المرء من هذه التّجربة.

جرى بعض الباحثين على تسمية السّجن بالمدرسة اليوسفيّة - نسبة ليوسف عليه السّلام - والحقّ أنّ القرآن لم يحك لنا شيئاً عن أهميّة السّجن ليوسف عليه السّلام، ولم يذكر لنا شيئاً عن أثر هذه المدرسة - إن كانت مدرسة - على يوسف عليه السّلام، بل الذي اهتمّ به القرآن هو:

1 - أنّ يوسف عليه السّلام اشتغل بالدّعوة إلى الله في السّجن، ولم يشغله السّجن عن هذه المهمّة، بل كان يستغلّ أصغر الأمور ليوجّه أنظار أهل السّجن معه إلى تأليه الله وتوحيده، قال تعالى على لسان يوسف عليه السّلام: {يا صاحبي السّجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار، ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان، إن الحكم إلاّ لله، أمر أن لا تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدّين القيّم، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون} يوسف.

2 - محاولة يوسف عليه السّلام الخروج المبكّر من السّجن وذلك حين قال لصاحبه {وقال للذي ظنّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربّك، فأنساه الشّيطان ذكر ربّه فلبث في السّجن بضع سنين} يوسف.

3 - حمده لله تعالى أن أخرجه من السّجن، قال تعالى على لسان يوسف عليه السّلام {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن} يوسف.

4 - قبوله دخول السّجن - إن كان لا بدّ منه - على تبديل المواقف وتغيير المبادئ {قال ربّ السّجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه}.

وهذه الأمور وغيرها ليس فيها شيء يتعلّق بأن يكون السّجن مدرسة، يتخرّج المرء منها بشهادة يتمايز بها هذا المرء عن غيره، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ من دخل هذا الامتحان فصبر فهو خير من غيره ممّن دخله ولم يصبر.

وممّا ينبغي التّنبيه عليه أن نذكر هنا أنّ هناك مدرسة حديثة معاصرة، مقطوعة النّسب، لا تلتقي في شيء مع منهج خير القرون، هذه المدرسة تدعو إلى غريب القول، وعمدة هذا القول يقوم على فلسفة تبرير الابتلاء كطريق على المرء أن لا يسعى للخروج منه بنفسه، أو يدافعه ويعاديه، وكان أول قطر هذه المدرسة كتاب يسمّى "مذهب ابن آدم الأوّل" للسّوريّ جودت سعيد، وهو يعدّ نفسه من مدرسة مالك بن نبي، ثمّ تتابع القطر فكان من عمد هذا المذهب كتاب آخر اسمه "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي تقول هذه المدرسة: إنّ سبب سقوط الحركة الإسلاميّة وعدم تقدّمها إلى مواقع جديدة نحو أهدافها هو تبنّي الحركة للعنف ضدّ خصومها وانتهاجها العمل السرّي، فتبنّي الحركة للعنف والسّريّة أعطى خصومها المبرّر أن تضربها وتقضي عليها، والطّريقة المثلى للخروج من هذا المأزق هو التّالي:

1 - أن تبتعد الحركة الإسلاميّة عن نفسيّة الصّدام ضدّ خصومها وأن تتعامل معهم كما تعامل ابن آدم الأوّل مع أخيه حين قال له {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين، إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار} وتطوّر الاحتجاج لهذا المذهب حتّى وصل إلى الاحتجاج بطريقة غاندي ضدّ خصومة الإنجليز.

2 - على الحركة الإسلاميّة أن تجعل من السّجن سبيلاً إلى حالة جماعيّة بها يتمّ التّثقيف والتّربية ومن خلاله يتمّ مدّ الفكرة إلى الآخرين.

تنتهي هذه النّظريّة بالخلاصة التّالية: أنّ الخصم سيمارس العقاب تلو العقاب ولن يُجابه إلاّ بالسّلبيّة في الرّد، وبالصّفح الجميل، وبعد أن يدرك هذا الخصم أنّك لن تردّ عليه ستثور في نفسه عقدة النّدم فسيلقي السّلاح ويولّي منهزماً، وحينئذٍ سيقع النّصر الموعود...

ولمناقشة هذه النّظريّة عدد قادم إن شاء الله.

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.com