منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "47"
   بين منهجين "47"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

على الرغم من تفاوت نيّات الوالجين في العملية الانتخابية التشريعية، وعدم وضوح تصوراتهم لها، واختلافاتهم في تحديد المراد منها، فإنّ هذه النيات لا قيمة لها في تحديد الحكم الشرعي لهذه العملية الشركية.

إذا توضح التوصيف الشرعي لواقع مجلس الشعب (البرلمان)، والتوصيف الشرعي مبني على أصلين هما: معرفة حقيقة البرلمان كما يريده أهله، وثانيهما: معرفة حكم الله تعالى في أمثاله، ثمّ عرفنا أنّ البرلمان هو مجلس شركيّ طاغوتيّ، لأنّ فيه إسناد حقّ التأليه لغير الله تعالى، فهو المشرّع في الدّيانة العلمانيّة، فهل يجوز للمسلم أن يدخله بنيّة أخرى تخالف حقيقته؟ وبمعنى أوضح: لو قال رجل مسلم: أنا أعرف حقيقة البرلمان والدّيمقراطيّة، وأنّهما كفر وشرك، ولكن لا أتعامل مع البرلمان من وجهة نظر أهله له ولكن أتعامل معه من وجهة نظري أنا، فأنا لا أوافق على العلاقة التّضامنيّة فيه (وقد قدّمنا معناها في العدد السّابق)؛ وأنا فقط أريد أن أبلّغ كلمة الحقّ فيه وعلى منبره، وأريد أن أقلّل الشرّ في التّشريع الوضعيّ، وأريد.. وأريد..؟ فهل لهذه الأقوال اعتبار؟ وبمعنى أكثر وضوحاً: هل فتوى بن باز في جواز الدّخول في البرلمان إذا كانت نيّة الدّاخل في الإصلاح وتبليغ الشّريعة صحيحة أم باطلة؟.

ومقدّما نّقول: إنّ هذه النيّات لا قيمة لها، ولا أهميّة لها في تغيير التّوصيف الشّرعيّ لهذه العمليّة ولا للقائم بها وعليها.

وللتّفصيل نقول:

أ - متى تعتبر المقاصد في الأفعال المكفّرة؟. الأفعال المكفّرة تنقسم إلى قسمين من جهة دلالتها على التّكفير:

1 - القسم الأوّل: صريح في دلالته.

2 - القسم الثّاني: احتماليّ في دلالته.

أمّا القسم الأوّل فلا ينظر فيه إلى المقاصد والنّيّات، ومثاله من سبّ الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا فعل كفر وردّة، بغضّ النّظر عن قصده، لأنّ هذا الفعل لا يحتمل إلاّ معنى واحد وهو الخروج من الإسلام، فلو قال رجل أنا أسبّ الله ومع ذلك فأنا أعترف بألوهيّته وربوبيّته، فلا قيمة لقوله هذا، لأنّ ذات السبّ ناقض للتأليه في كلّ وجه، وممّا ذكره أهل العلم كذلك للتّفريق بين تبيين القصد أو عدم تبيينه سبّ الصّحابة رضي الله عنهم، فإنّ من سبّ أحداً من الصّحابة فإنّه لا يكفر (إلاّ من اتّهم عائشة رضي الله عنها بالفاحشة فإنّه يكفر لتكذيبه القرآن)، لأنّ من سبّ أحداً من الصّحابة له وجه وهو عدم التّكفير، كما كان بعض الصّحابة يسبّ بعضهم بعضا لأمر اجتهاديّ أو لأمر دنيويّ، أمّا من سبّ جميع الصّحابة فإنّه لا وجه لسبه إلاّ أنّه مبغض للإسلام وأهله ولا وجه له آخر يحتمله، وكذا قاتل النّبيّ فلا يقال له: هل قتلته وأنت مكذّب بنبوّته أم مصدّق لها ولكنّك لا تريد متابعته؟. أم هل قتلته نفياً لنبوّته أم لقضايا شخصيّة بينك وبينه؟ وسبب عدم النّظر إلى المقصد أنّ الفعل لا يحتمل إلاّ معنى واحداً وهو الكفر والدّلالة على الكفر (ولا نقصد هنا بقولنا الدّلالة على الكفر أي على الكفر القلبيّ بمعنى نفي التّصديق كما تقول المرجئة). فإذا كان الفعل لا يشير إلاّ إلى اتّجاه واحد فلا قيمة للمقاصد، أمّا إذا كان الفعل محتملاً فلا بدّ من سؤال الفاعل عن قصده، ومثاله: لو أنّ رجلاً سبّ دين رجل مسلم فهل نكفّره بمجرّد سبّ الدّين؟ أم أنّنا لا بدّ أن نسأله عن مراده في كلمته ههنا؟ فإن قصد دين الإسلام فهو كافر، وإن قصد دينه (أي سلوكه والعمل الذي ينتهجه) فلا يكفر لهذا المعنى، ومن الأمثلة القويّة على هذا الأمر هو حكم الجاسوس؛ فقد اختلف العلماء في حكم الجاسوس المسلم فبعض أهل العلم يرى أنّ هذا الفعل مكفّر وفاعله مرتدّ، وحكمه حكم المرتدّ، وبعضهم يرى أنّ هذا الفعل ليس من أفعال الردّة المكفّرة، فحكمه دائر بين قتله حدّاً وبين تعذيره، والأقوال الثّلاثة في مذهب أحمد؛ والصّحيح أنّ الجاسوس المسلم دائر بين هذه الأحكام، فقد يكون فعله دالاّ على الردّة وقد يكون معصية من المعاصي لا تخرج صاحبها من الإسلام، وههنا للتّمييز بين الجاسوسين لابدّ من تبيّن القصد، والقصد إن كان أمراً قلبيّاً إلاّ أنّه يمكن معرفته بالقرائن، كقول الفقهاء في التّمييز بين القتل العمد وشبه العمد، أنّ الفارق بينهما هو القصد، فإذا قصد الرّجل القتل فهو عمد، وإن لم يقصد فهو شبه العمد: وطريقة معرفة القصد هي الآلة المستخدمة في القتل، فإن كانت الآلة ممّا يقتل بها عادة فهو قاصد، وإن كانت الآلة لا يقتل بها عادة، فهو غير قاصد، فقد عرف القصد بالآلة أي بالقرينة، وكذلك الجاسوسيّة فلا بدّ من القرينة لنعرف فاعلها هل هو مرتدّ أم لا؟ إن فهمت هذه حلّ إشكال مسألة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ورسالته إلى قريش، فقرائن الحال من سابقته في الإسلام وكونه من أهل بدر ثمّ صيغة الرّسالة تدلاّن على أنّ الفعل بقرائنه لا يفيد حكم الردّة.

ب - هل لا بدّ من شرط نيّة الكفر ليكفر الرّجل؟.

من المعلوم شرعاً أن عدم القصد هو مانع من موانع التّكفير بعد ثبوت تهمة الفعل على الفاعل، فما المقصود بقولهم: عدم القصد مانع من موانع التّكفير؟.

إنّ المقصود من قولهم هذا: هو عدم قصد الفعل، وليس قصد الكفر، فمن فعل فعلاً مكفّراً وهو قاصد له فهو كافر سواء قصد الكفر أو لم يقصد، وأدلّة اعتبار عدم القصد مانع من موانع التّكفير كثيرة منها: حديث فرح الله تعالى بتوبة العبد، وقول الرّجل: اللهمّ أنت عبدي وأنا ربّك، قال صلى الله عليه وسلم: ((أخطأ من شدّة الفرح)). فهذا الرجل قال قولاً لم يرده، وأخطأ فيه، ومع أنّ قوله كفر إلاّ أنّه لا يعود على قائله حكم القول لأنّه لم يقصد هذا القول وإنّما أراد غيره، فذهل ذهنه عنه فأتى بضدّه وللتّفريق بين قصد الفعل وقصد الكفر نضرب هذا المثال: لو أنّ رجل داس على المصحف وهو لا يدري؛ لكونه لا يراه كأن يكون في الظّلمة، فهذا رجل لم يقصد الفعل فلا يقال له كافر لدوسه على المصحف، لكن لو أنّ رجلاً داس المصحف عالماً بفعله، وأنّه يدوس على المصحف (كلام الله) فإنّه يكفر سواء أراد بفعله هذا أن يعبّر عن خروجه عن الإسلام أم لا، فربّما يدوسه غضباً من أحد لقراءته له، وربّما يدوسه ذهولاً عن اعتقاده فيه، وربّما يدوسه مع تصديقه أنّه كلام الله، ولكن داسه تلهّياً وتلعّباً، فهذا الرّجل وإن لم يقصد الكفر، فإنّه يكفر و لا شك. وممّا قرّره شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله - في "الصّارم المسلول" أنّ القليل من البشر ممّن ينوي الكفر، بل أغلبهم حين كفره لا ينوي الخروج من الإسلام، ولكنّ هذا القصد لا يمنع خروجهم من الإسلام.

وعلى هذا فالنّيّات لا تنفع في رفع الحكم الشّرعيّ وتغيير وصفه.

لكن ههنا مسألة وهي: هل يعني الكلام المتقدّم أنّ كلّ من شارك في العمليّة الانتخابية التّشريعيّة هو كافر ولا عذر له؟.

الذي أعتقده أنّ الجواب هو: لا، وسبب ذلك:

أ) أنّ واقع العمليّة الانتخابية التّشريعيّة كما هي في دستور أصحابها لم تتّضح لكثير من علية القوم من علماء ومشايخ وقادة، فهي لا زالت في عالم المجهول، فعذر الجهل واقع لا شكّ، وعلى الاخوة الذين تبيّن لهم حقيقتها تمام التّبيّن أن لا يعاملوا النّاس على هذا الوضوح، فما يزال الأمر يحتاج عند الآخرين لكشف وتوضيح، وخاصّة أنّ أمرها هو من الحداثة الجديدة التي لم يتكلّم عنها السّلف حتّى تكون واضحة للأمّة، والجهل بالواقع مانع من موانع لحوق الحكم، فلو أنّ رجلاً قال كلمة يظنّها مدحاً فكانت في حقيقتها قدحاً، فإنّه لا يؤخذ بها لجهله بحقيقتها كالعجميّ في لغة العرب، والعربيّ في لغة العجم.

ب) إنّ الفتاوى الكثيرة لمشايخ ينظر إليهم النّاس كأمناء على منهج السّلف بجواز الدّخول في العمليّة البرلمانيّة تجعل هذه المسألة من المشتبهات على النّاس، فقد قامت جريدة خاصّة بحزب الإصلاح اليمني بتجميع أقوال المشايخ الذين أجازوا هذا الطّريق الشّركي خلال حمي الانتخابات البرلمانيّة اليمنيّة ممّا أوحى للقارئ أنّ المسألة لا خلاف حولها، فهذا ناصر الدّين الألبانيّ (وقد قيل أنّه غيّر رأيه) وهذا ابن باز وابن عثيمين وعبد الرحمن عبد الخالق، ويوسف القرضاوي ومحمّد الغزالي.. وغيرهم ممّا لا تحصيهم هذه الورقات كلّهم أجازوا لمن أراد الإصلاح أن يرشّح نفسه للبرلمان، وأوجبوا على النّاس (وجوباً) أن ينتخبوا الأصلح، ممّا يجعل هذه المسألة من المشتبهات، وقد تبيّن من كلام السّلف وخاصّة من كلام ابن تيميّة أنّ مثل هذه المسائل التي تدقّ أو تخفى فإنّ المرء معذور بها.

لكن لا تمنع هذه الأعذار لحوق حكم الكفر بالبعض لإبائه واستكباره بعد علم الأمر ووضوحه.

ثمّ هناك مسألة وهي: هل الحكم القضائيّ يعامل النّاس باعتقاداتهم أم باعتقاد القاضي والحاكم؟.

أهل السنّة والجماعة لا يعاملون المخالفين بعقائدهم الباطلة، ولا بالتزاماتهم البدعيّة، فالخارجي وإن كان يكفّر مخالفيه بالذّنوب غير المكفّرة، فإنّه لا يجوز للسّنّي أن يحكم على الخارجيّ بالكفر إذا اقترف كبيرة من الكبائر، بحجّة أنّ هذا الرّجل قد كفر حسب مقتضى عقيدته، فهذا خطأ، فإنّ السّنّي يعامل النّاس باعتقاده هو لا باعتقادات النّاس الباطلة البدعيّة.

والقاضي يحكم على المذنب باعتقاده هو لا باعتقاد المذنب: فلو أنّ رجلاً ترك الصّلاة بحجّة أنّ تارك الصّلاة في بعض مذاهب العلماء لا يكفر، ثمّ رُفع هذا الرّجل إلى القاضي وكان القاضي يرى كفر تارك الصّلاة، فإنّ القاضي يحكم بكفره، ولا ينظر إلى اعتقاد المرء في ترك الصّلاة، ثمّ لو كان هذا الرّجل حنفيّاً مثلاً وهو لا يعتقد أنّ تارك الصّلاة حكمه القتل، فإنّ القاضي يحكم بقتله ردّة، ولا عبرة باعتقاد المذنب، فنحن لا نعامل النّاس بمذاهبهم الباطلة، ولا بموازينهم الرّديّة، بل عند أهل السنّة من الحقّ ما يكفيهم ويغنيهم عن أخذ باطل الآخرين وأقوالهم الضّعيفة.

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.com