منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "43"
   بين منهجين "43"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

قلنا في الحصّة قبل الفائتة أنّ جماعات الجهاد قامت على عُمُد كلّ عمود فيها كافٍ في جعل هذه الحركات واجبة الوجود والحدوث، وليعلم المسلمون أنّ الانضمام لهذه الجماعات ليس نافلةً من القول، وليس هو موسميّ الوقوع، بل هو واجب على كلّ مسلمٍ، أي واجب أن يعمل المسلم في عملٍ جهاديّ، إمّا أن يدعو إلى الجهاد أو يعدّ له، أو يعمل به، ولا ينفكّ هذا الوجوب إلاّ بدليل شرعيّ خاص، أي في كون الرّجل من أصحاب الأعذار، الذي عذرهم الشّرع الكريم، وقد تكلّمنا في حصّة فائتة أنّ أيّ فكرة في الوجود لا يمكن أن تُعمِل نفسها في الحياة إلاّ من خلال جماعة، إذ أنّ الجماعة هي اللبنة الأولى لأيّ عمل أو مهمّة.

والآن ما هي موجبات حركات الجهاد في العالم الإسلامي؟.

ونحن نقصد بحركات الجهاد هنا، وفي كلّ موطن، هي تلك الجماعات المجاهدة داخل دار الإسلام السّليبة، وليس خارجها، وهي الجماعات المجاهدة العاملة لإعادة رأس المال، وليس هذا إنكاراً لغيرها، ولكن حديثنا عن جهاد الدّفع، وهو جهاد واجب على كلّ مسلم. أمّا موجبات حركات الجهاد في ديار الرّدّة فهي:

1 - إعادة العقد الجامع لشتات المسلمين، أي دولة الخلافة الضّائعة: فلمّا سقطت الخلافة انفرط عقد الأمّة، فلم تعد تستحقّ اسم الأمّة، نعم هناك مسلمون في أرض الشّتات، وهناك عبّاد وقوّام، وزوامل علم وحجّاج، وذاكرون وذاكرات، ولكنّ كلّ هؤلاء لا يدخلون أبداً في مسمّى الأمّة، فلا يوجد هناك أمّة إسلاميّة، لأنّ أوّل مقوّمات الأمّة لا توجد بين هذه الحبّات المتناثرة بلا ضابط، ولا حبل جامع، ونعني بها وجود الدّولة، فليس للمسلمين دولة ولا شوكة ممكّنة، ولا منعة حافظة، وقد بذل الكفر جهوداً متتالية في دفع دولة الخلافة وإسقاطها، كرَّ المرّة تلو المرة، حتّى كان له ما أراد، ولكن والحقّ يقال: إنّ العوامل الدّاخليّة في دار الإسلام، عوامل الهزيمة والانحطاط، هي السّبب الرّئيسيّ لإسقاط هذه الدّولة، فليس ما عمله الكفّار بمعادل ما عملته الأمّة بنفسها، فلو نظرنا نظرة فاحصة إلى صورة المجتمع الإسلاميّ في دار الإسلام قبل إزالتها، لوجدنا أنّ هذه الدّار كانت تفيض بعوامل الانحطاط والتّخلّف، ومن أهمّ هذه العوامل هو فساد التّصوّر العقديّ، إذ انتشرت في الأمّة جرثومة الصّوفيّة، هذه الصّوفيّة التي ما دخلت في أمّة من الأمم إلاّ جعلتها أثراً بعد عين، الصّوفيّة التي شغلت النّاس في الوصول إلى حالة العرفان والجذبة، فأرهقت المرء المسلم في سعيه لهذه الخيالات الجنونيّة، وعطّلت المسلم عن البحث والنّظر، لأنّ الصوفيّ يظنّ أنّه بمجرّد وصوله لهذه المرتبة سيدرك حقائق الأشياء، وسرّ الكون، فلا ضرورة إذن للسّعي والجدّ في اكتشاف سنن الكون والحياة، لأنّ الصّوفيّة تؤمن أنّه بمجرّد كون الرّجل وليّاً عارفاً فإنّه سيملك ناصية هذا الكون، فسيتحكّم في سننه من أمراض وظواهر كونيّة من ماءٍ ونار ومطر ورعد، وسيكون مالكاً لإكسير الحياة وسرّ الأشياء، وسيسيطر على حجر الكيمياء، هذا الحجر الذي يستطيع مالكه أن يغيّر الأشياء وحقائقها، فبه ينقلب الحديد ذهبا، وبه تنقلب المياه جواهر ودرراً، فأفسدت النّظر إلى الكون والحياة، نعم انتشرت الصّوفيّة في الأمّة وتغلغلت فيها إلى الصّميم، ولا يقولنّ قائل: إنّ الصّوفيّة لم تكن شائعة، أو أنّها كانت محصورة في بعض جوانب الحياة، لا، فهذا خطأ شنيع، لأنّ الصّوفيّة كانوا هم قادة الحياة، وسادة المجتمعات الإسلاميّة، بل إنّ الصّوفيّة وإلى الآن هي التي تسيطر على عقول قادتنا ومشايخنا، فهذا سعيد حوّى يريد أن يعيد إحياء الأمّة عن طريق التّربية الصّوفيّة، فيؤلّف للنّاس كتاباً في هذه التّربية الرّوحيّة، ويدعو الشّباب إلى الدّخول في مدارس إحياء الرّبّانيّة، ويقصد بها السّلوك على يد مشايخ الصّوفيّة، بل إنّ أكثر القادة تحرّراً من القديم بكلّ ما فيه من خير وشرّ، لم نسمع منه كلمة واحدة، ولا رأينا له مشروعاً في تحطيم هذا المرض الخبيث، فهذا حسن التّرابيّ يعيش في مجتمع تغلغلت فيه الصّوفيّة إلى الصّميم، ومع ذلك لم نسمع منه كلمة واحدة نحوها، بل ولا اهتمّ من قريب أو بعيد بجوانب الشّرك التي تنتشر في مجتمعه.

إنّ البعد الدّاخليّ في الإنسان المسلم، وفي الجماعة المسلمة، ما لم يتحرّر من هذه المخلّفات النّتنة فلن نخطو الخطوة الصّحيحة إلى أهدافنا، وهذا يجعلنا نكرّر المرّة تلو المرّة أنّ جماعات الجهاد ليست هي تلك الجماعات التي تحمل السّلاح فقط، بل هي جماعات التّجديد لما اندرس من معالم هذا الدّين، وهي جماعات التّجديد أي إعادة صورة الإسلام إلى الحالة التي كان عليها وهو جديد في أوّل أمره.

إنّ طرح الجهاد كمشروع وحيد لإحياء الأمّة، لأنّ الجهاد هو الإطار الذي يحرّر المسلم من أهواء نفسه ومن مخلّفات مجتمعه، ومن انحرافات مذاهب البدع، لأنّ الجهاد هو الحامل لروح التّمرّد على كلّ ما هو فاسد في داخلنا، فالمجاهد اليوم لن يكون كذلك إلاّ بعد أن يتحرّر من سلطة الكهنوت القابعة على صدر الأمّة باسم العلم والعلماء، هذه السّلطة التي تضرب بسيف الدين كلّ من حاول أن يستخدم عقله الذي طال الزّمن عليه بالتّغيير والإقصاء، نعم هذا الكهنوت الذي لم يخرم غرزاً ممّا عند النّصارى برهبانهم واليهود بأحبارهم، إنّ هذا الصّنف من البشر وأقصد بهم طبقة الكهنوت هم من أرذل خلق الله، وهو الجدار الأوّل الذي يمنع المسلم من استعمال حقّه في استخدام عقله الذي كرّمه الله به، وهو الجدار الأوّل الذي يمنع المسلم من تحرّر إرادته في أن يتقدّم الخطوة الأولى نحو أهداف الإسلام الصّحيحة، نعم لو قدّر لرجل مسلم يحترم عقله أن يرى شيخ الأزهر وهو يتكلّم في إحدى محطّات التّلفزيون لأيقن أنّه لا نهضة لأمّتنا، ولا خروج من مأزقها حتّى ترفع شعار: اقتلوا آخر حاكم مرتدّ بأمعاء آخر قسّيس خبيث.

كان دور العالم دوما اكتشاف الخطأ مبكّراً قبل غيره، لأنّه الأقدر بما أوتي من موهبة ربّانيّة، وعطاء إلهيّ في أن يتقدّم الصّفوف في كلّ شيء صحيح، وكان دوره دوماً الرّائد الذي لا يكذب أهله في تضحيته بنفسه، ليكون وقوداً لشعلة الصّلاح في مجتمعاتنا، أمّا أن يكون دور العالم هو إسباغ الشّرعية على الفساد، وإطلاق عبارات الشّرع المدحيّة على الشّر والضّلال، فهذا تزوير وانحراف، وجريمة لا تعادلها جريمة، وهي أعظم جرماً من الاتّجار بالمخدّرات، لأنّه يسوِّق الرّذائل تحت أسماء جميلة حسنة، وهذه الجريمة هي أوّل جريمة بدأها إبليس في التّاريخ الإنسانيّ حين سمّى شجرة المعصية شجرة الخلد وملك لا يبلى.

إنّ أمراض الأمّة المشتّتة بحاجة إلى جهود مضنية، وإلى قادة مخلصين، ليتمّ إحياء الأمّة على منهج صحيح صائب، لأنّنا نحن اليوم نعيش على مرقب عال، نرقب مستقبلاً يتناوشنا فيه العدوّ من جانب، هذا المسـتقبل الذي حاول فيه الأعداء أن يرسم معالمه ليكون حسب سياسته ومراده، وهو يملك أدوات التّطبيق، فـهو الذي يملك المال والقوّة، فعنده الآلة العسكريّة الرّهيبة، وعنده العديد من الاحتمالات التي يمكن أن يستعملها متى يريد، وفوق ذلك في أمّتنا التّربة الصّالحة لهذه الاحتمالات الكفريّة الخبيثة، أمّا عدّتنا نحن، فليس هناك من شيء سوى الحقّ إن جرّدناه عن شوائب الأفكار المنحرفة، وعلمناه على حقيقته كما هو من غير بدع الإرجاء والجبر، ومن غير هوى الآراء والأفكار، وعلينا أن نملك عقيدة الجهاد، وروح الجهاد، ونفس الجهاد، هذه العقيدة التي تهون أمامها الصّعاب، وتتصاغر في وجهها الجبال، هذه الرّوح التي تنطوي على حبّ الموت والرّغبة فيما عند الله، والتّرفّع عن الدّنايا والصّغائر، والزّهد في الدّنيا، هذا النّفس إن ملكناه أو تملَّكناه كنّا أعاصير لا تبقي للكفر أثراً، ولا للظّلام وجوداً.

إنّ الواجب علينا أن نطلق لفظ الجهاد بين كلّ كلمة وكلمة، وندندن حوله في كلّ موقع، لتنقشع الظّلمات وتعود الأمّة إلى سابق عهدها، عزّاً ، وتمكيناً وريادة.

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.com