بين منهجين "48"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
يتّهمنا خصومنا أنّنا أصحاب أوهام وأحلام، وأنّنا حين نتحدّث عن دولة
الإسلام القادمة، وأنّها دولة هجرة وعزّة أنّنا نتحدّث عن أضغاث أحلام،
لكنّنا بفضل الله تعالى نحن الأقدر على فهم سنّة الله تعالى في الحياة،
والذين أتعبتهم رقابهم وهي تنظر إلى حضارة الكفر بانبهار وانهزام هم الذين لا
يفهمون سنّة الله تعالى في الحضارات وسقوطها، وإذا أردنا أن نستشرف المستقبل
الذي نرتقبه لهذه التّركيبة لحضارة الشّيطان، ومن خلال معطيات أوليّة، وحتّى
نحضّر أنفسنا لهذا المستقبل، فإنّ هذه المعطيات الحقيقيّة تقول لنا
التّالي:
أ - قوّة أيّ دولة تكمن في مركزيّتها، والعالم بلا شكّ الآن
يمثّل قرية صغيرة، عاصمتها حضارة الشّيطان في الغرب، وعلى الخصوص في هذا
الوقت هي أمريكا، واستناد كافّة الولايات في العالم قائم على المركز، منه
يستمدّ قوّتة، ومنه يكتسب هيبته، مع التّنبيه أنّ بعض أطراف هذه الدّولة
العالميّة هي ضعيفة الصّلة بهذا المركز، ومن خلال هذا الضّعف تكتسب حركات
الجهاد مواقعها وتحافظ على نفسها من الانتهاء والتّلاشي، وهذه البؤر الضّعيفة
تمدّ هذه الولايات المهمّة عصارة الحقّ ببقاء صوت الإسلام والتّوحيد والجهاد
مدوّياً وحاضراً في نفوس مادّة الجهاد وهم الشّعوب، هذا المركز العالميّ
عوامل الفناء الحضاري قائمة فيه وبقوّة، وحديث القرآن عن سبب الفناء الحضاري
هو بسبب ما بالأنفس من فساد عقدي، وانهيار خلقيّ، ومظالم اجتماعيّة، وهو نفس
صرخات العقلاء في هذه الحضارة ك "توينبي" حين يصرخ في بني قومه أنّ
مجتمعاتهم إلى زوال، ولا بدّ من التّنبيه إلى نقطة مهمّة بها تفترق هذه
الحضارة في هذا الزّمان عن بقية الحضارات وهي تسارع الدّورة الاجتماعية من
المبتدأ إلى السّقوط - وهو داخل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسارع
الزّمن - فما كان يحتاج من الوجهة الاجتماعية إلى سنّة صار يحتاج إلى أقلّ
منها بكثير، وهذا سبب اكتشاف السّنن الكونيّة التي أعانت حركة الإنسان، وجعلت
تحقيق إرادات قلبه ممكنة الحصول وبسرعة فائقة، ثمّ لعلّ هذا قريب الشّبه
بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على علامات السّاعة أنّها في آخر
الزّمان تتسارع كحبّات العقد منفلتة من عقالها وحبلها، وهذا يفيدنا هاهنا أنّ
السّقوط سيكون مفاجئاً حتّى لأكثر النّاس إساءة ظنّ بهذه الحضارة، {فأتاهم
الله من حيث لم يحتسبوا} ولعلّ انفجار أوكلاهوما كشف لنا شيئاً عن التيّارات
الخفيّة المتنامية في داخل هذه المجتمعات، والتي ستكون هي البدائل الحقيقيّة
لهذه المركزيّة الصّارمة، لأنّ الرّوابط بين المركز وغيره تتزايد ضعفاً
وهشاشة، وقبل انفجار أوكلاهوما ما حصل في لوس أنجلوس من ثورة فجّرها الرّجل
الأسود ضدّ الظّلم والقهر المفروض عليه في مجتمعه وأهل بلده، أمّا في أوروبا
فالكلام عليها لا تحتمله هذه الورقات من كشف هذه التّيّارات الخفيّة، ويكفي
أن نعلم أنّ تيّارات التّعصّب الدّينيّ والعرقيّ قد أوجدت لها مقاعد في داخل
السّلطات التّشريعيّة في البرلمان وغيره، بل إنّ بعضها قد صار أمل وصوله إلى
الحكم وشيك الوقوع.
ب - عند سقوط هذه الدّول من مركز وولايات ما هو
البديل؟ وبعيداً عن الأوهام والأحلام نقول لن تسقط ولاية كاملة بيد بديل واحد
سواءً كان إسلاميّ أو كفري، فالبديل هو التّوحّش، وسبب هذا الجزم أنّه لا
يوجد تجمّع واحد قادر أن يحتوي هذه الثّمرة النّاضجة إلى جرينه، والذين
يتصوّرون أنّ الإسلام هو البديل الوحيد لهذه الحضارة الشّيطانيّة، هم واهمون،
وسبب وهمهم لأنّه لا يوجد مقدّمة موضوعيّة لهذا الأمل، وليس هذا حديثاً عن
الإسلام وقدرته، ولكنّه حديث عن المسلمين وعجزهم، وحتّى تكون الصّورة أقرب
إلى الأذهان فبين يدي الباحث عدّة أمثلة تبيّن لنا عجز الحركات الإسلاميّة عن
تلقّي الثّمرة وهي ساقطة سقوطاً حرّاً علاوة على عجزهم من قطفها بأنفسهم، هذه
الأمثلة: أفغانستان، والولايات الإسلاميّة الخارجة من الحكم الرّوسيّ. أمّا
أفغانستان: قد شاركت الحركات الإسلاميّة في سقوطها، وقد سقطت، لكن هل كان
المسلمون وعلى الخصوص أهل السنّة والجماعة عندهم من المقدّمات ما يؤهّلهم
لوراثة هذه الثّمرة.. النّظرة تكفي الجواب.
الولايات الإسلاميّة
الخارجة من الحكم الرّوسيّ: فقد سقطت مركزيّة الحضارة الشّيوعيّة وتناثرت
حبّاتها، فهل يوجد حبّة واحدة من هذه الثّمار وقعت بيد المسلمين؟ اللهمّ إلاّ
طاجكستان، ولكنّ الفرحة لم تتمّ.
وفي هذه اللحظة لو سقطت أيّ حلقة من
حلقات الردّة في العالم، فهل يوجد عند الحركات الإسلاميّة القدرة على تلقّي
السّاقط ليكون وارثاً له؟، وهل تملك هذه الحركات المقدّمات الموضوعيّة لهذه
الوراثة؟.
لو تصوّرنا هذه اللحظة أنّ المملكة السّعوديّة ضعفت
مركزيّتها الآن وانتهى حكم آل سعود المرتدّين، فكيف هو التّصوّر الموضوعيّ
لهذا الإرث؟ الجواب: بكلّ وضوح لن يكون من الوارثين أحد يسمّى (الوارث
الإسلامي) بل ستكون بدائل جاهليّة جديدة، كما هي البدائل الحاصلة في الصّومال
حين سقوط الدّولة.
وأنا ضربت مثالاً بالجزيرة العربيّة كون العلمنة
فيها إلى الآن لم تصل إلى أهدافها في داخل الشّعوب، مع وجود مقدّمات جاهليّة
خادمة لخصومنا مثل القبليّة وغيرهما، أمّا إن ضربت مثلاً بتونس فالصّورة
قاتمة ولا شكّ، كون عرى الإسلام قد هُدمت من أصولها في الشّعوب علاوة على
الحكم والقضاء.
وبنظرة موضوعيّة نقول: الحلقة الوحيدة التي تملك
معطيات القول: أنّ الإسلاميين هم سيكونون ورّاثاً في هذا التّشتّت - لو وقع -
هم الجماعة الإسلاميّة المسلّحة في الجزائر، فلو سقطت الحلقة المرتدّة في
الجزائر سيكون إن شاء الله وبكلّ ثقة الوراثة لهذه الجماعة المنصورة، لأنّها
تملك معطيات الوراثة، وأهمّها العقيدة الصّحيحة والسّيف الحديديّ. كتاب يهدي
وسيف يحمي..
ج - هذا التّوحّش الذي سيكون وارثاً لهذه الولايات بعد
انفلاتها من المركز يوجب علينا عدّة أمور أهمّها:
1 - بناء تنظيمات
مسلّحة، قادرة على التّرقّي عن مرحلة شوكة النّكاية إلى شوكة التّمكين، وهي
وإن كانت هذه التّنظيمات تحمل من اسمها: القلّة وعدم الانتشار إلاّ أنّها
حتّى تقود هذا التّوحّش ثمّ تعيد صياغته من جديد فإنّها بحاجة إلى السّلاح
والقدرة على إدارة التّوحّش، أو بمعنى آخر على إدارة الفوضى. وهذه التّنظيمات
وإن كانت في كثير من البلاد في هذا الوقت ليست بقادرة على تحقيق تقدّم نوعيّ،
أو حتّى كمّيّ، فإنّ وجودها قد يزدهر بدخول عوامل جديدة على هذه المعادلة
الخاسرة، ثمّ لأنّ هذه التّنظيمات هي الخطّ الرّئيسيّ في الدّفاع عن إسلام
الأمّة وتوحيدها، ثمّ هي بنكايتها الضّعيفة تعطي هامشاً جديداً لحركات البلاغ
والدّعوة في داخل مجتمعاتنا المتحوّلة، فانشغال حكومات الردّة بالأعنف وهم
حركات الجهاد المقاتلة يشغلهم عن الوعّاظ والمدرّسين ومشايخ التّربية، وخطباء
المساجد عملاً بالقاعدة العقليّة: ارتكاب أخفّ الضّررين. وهذه التّنظيمات
واجبة القيام على الأمّة أصلاً.
2 - التّوحّش أو الفوضى ستعمّ العالم،
وخاصّة في بلادنا. أمّا الغرب فهم موصوفون أصلاً بالقدرة على قيام هذه
الإدارة في بلادهم تاريخيّاً وهو المقصود بقول عمر بن الخطّاب: "وأسرعهم
إفاقة بعد مصيبة" والحديث في صحيح المسلم.. هذا التوحّش - أو الفوضى - القادم
على العالم سيجزّئ الدّولة الواحدة إلى تجمّعات صغيرة تختلف من تجمّع لآخر من
حيث رابطتها، فبعضها قلبيّ، وبعضها فكري، وبعضها مذهبيّ، وبعضها طائفيّ، كما
كنّا نرى في لبنان وأفغانستان والصّومال، وكما سنراها لاحقاً في كثير من
البلاد، إمّا بصورة جماعيّة وهو الأقوى نظراً، وإمّا على تتابع في سقوط
متتالي.
هذا التّوحّش يوجب علينا تعلّم فنّ وعلم إدارة هذا التّوحّش،
وهو سلاح ذو حدّين - أقصد التّوحّش -، إمّا أن يجتثّنا أو نفيد منه. وإفادتنا
منه تكون بسبب ضعف المركزيّة ممّا يجعل لحركات الجهاد هامشاً من الحركة غير
المراقبة، من تدريب وإعداد وتنظيم، كما حصل في أفغانستان، وها هنا لا بدّ من
أمر وهو التّنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على
النّسيج الوطني، أو اللحمة الوطنيّة، أو الوحدة الوطنيّة، فعلاوة على أنّ هذا
القول فيه شبهة الوطنيّة الكافرة، إلاّ أنّه يدلّ على أنّهم لم يفهموا قطّ
الطّريقة السننيّة لسقوط الحضارات وبنائها.
ثمّ هذا التّوحّش يوجد
للغرباء مأوى يستترون فيه بعيداً عن طلبات اللجوء إلى بلاد الغرب، هذا إذا
استطاعت حركات الجهاد أن توجد لها مكاناً في قطعة الجبن المتناثرة.
3
- القدرة على إعادة التّشتّت إلى لحمة جديدة تحمل صورة الإسلام الصّحيحة،
وهذا يستدعي وجود قادة لهم النّظر الثّاقب في الإدارة والحرب، وحتّى أقرّب
الصّورة أكثر فإنّ القارئ الباحث يستطيع أن يستطلع شيئاً ما هو مقبل من خلال
معرفته معرفة حقيقيّة لواقع المجتمع الإسلاميّ قبل الحروب الصّليبيّة وخلالها
وبعدها، فإنّه قد يعيد التّاريخ نفسه إذا وُجدت نفس المعطيات، والمعطيات
متشابهة هاهنا وليست متطابقة.
4 - وبقيت ههنا نقطة وهو السّؤال الذي
تقدّمت الإشارة إليه وهو: كيف سيعالج الغرب حالة الفوضى التي
ستجتاحه؟.
ولأنّ الجواب له علاقة بواقع مجتمعاتنا فلا بدّ من الإجابة
عليه.
والجواب: هو كعادة الغرب كلّما تضخّمت مشاكله الداخلية، وضاقت
موارده الاقتصادية، واضطربت معالم بنائه، وتزايد العاطلون عن العمل وتزايد
حدّة اللصوصيّة والجريمة، فإنّ الغرب بطريقة ذكيّة يتقنها، يوجّه الكمّ من
المشاكل إلى حالة استنفار نحو خصومه التّقليديين في المشرق الإسلاميّ، وهذا
مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والرّوم كلّما كسر لها قرن ذر
لها قرن آخر))، لكن يبقى السّؤال: من هو الذي سيكسر هذا القرن الباعج لأمن
ودعة وخمول مجتمعاتنا؟. |