بين منهجين "58"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
كان ممّا قالته هذه المدرسة، ودعت النّاس إليه هو ترك أيّ إشارة أو كلمة
فيها عداوة لأعداء الدّين، حيث يقول جودت سعيد: أن نكون شهداء لله وقوّامين
بالقسط مع الذين يسيئون إلينا، وعلينا أن ندرّب أنفسنا أن نكون كذلك، ونتواصى
بذلك، ونتواصى بالصّبر عليه، حتّى أنّنا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدوّ
عليهم، وإنّما اختلفنا في التّفسير، والله تعالى علّمنا أن نقول: {وإنّا
وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين}. ا. هـ. هذا الذي قاله جودت سعيد تمارسه
الكثير من الحركات المنتسبة للإسلام، فالإخوان المسلمون ما زالوا يردّدون
صباح مساء أنّ النّصارى إخوانهم، كما ورد في آخر بيان لهم تحت عنوان: "بيان
للنّاس"، وما مؤتمرات الحوار بين الأديان إلاّ صورة مثلى لمثل هذا الانحراف
الخطير، وهؤلاء القوم يمارسون هذه الأخلاق التي يزعمونها حسنة، ولكنّها على
حساب الإسلام، فالإسلام هو الذي يجني الثّمار السّيّئة لهذه الأفعال القبيحة،
وهذه المقولة وغيرها من المقولات تؤكّد ما قلنا مراراً من أنّ هؤلاء القوم
يفقدون الفهم الصّحيح للبّ هذا الدين وجوهره، وحكمته التي إن لم يفقهها المرء
فقد الرّشد كلّه، واضطربت رؤاه وتصوّراته، وجوهر الدّين قائم على العبوديّة
لربّ العباد، وأنّ الإنسان عبد لهذا الإله الحقّ، فليس له من قول يرتئيه، ولا
مذهب ينتحله سوى ما أراده الله تعالى له، فهو لا يقدّم قولاً على قول الله
سبحانه وتعالى، ولا يؤثر رابطة على رابطة عبوديّته لربّ العالمين، فإذا أخطأ
المرء هذه الأخية أخطأ الدّين كلّه ، وتظهر حينئذٍ المفارقات بين منهج عبد
الله ومنهج متّبع الهوى والرأي الذّاتي.
من فهم الأولى وآمن بها،
واعتقدها على ما هي عليه فإنّه يحارب الخلق ويعاديهم، أو يحبّهم ويواليهم
بمقدار قربهم من الله تعالى أو بعدهم عنه، فهو يحارب من حارب الله، ويعادي من
كفر بالله.. {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}. وقوله صلى
الله عليه وسلم: ((وقاتلوا من كفر بالله)). فعلّة حركته العدائيّة نحو مجموعة
من الخلق هي عداؤهم لله تعالى، ولو كانت هذه المجموعة من أكثر النّاس إحساناً
له وعطفا عليه كأن يكون والده أو والدته، فإنّ المسلم لا ترتجّ يده قط وهو
يذبح والده أو أخاه أو ابنه إن وقف هؤلاء مع صفّ الكفر، أي صفّ العداء لله
تعالى، وهو كذلك يحبّ من أحبّ الله تعالى، ويدافع عنه، وسيؤثره على نفسه وإن
كان من قوم لا يعرفهم أو يعرفونه، إذا فهمت هذه النّكتة فإنّ المرء لا يسأل
عن موقف ظهر منه التّناقض بين إحسان قوم له وبين سعيه الجادّ في قتالهم
وقتلهم، فعلّة حرب المسلم للنّاس جميعاً هو كفرهم بالله تعالى، لأنّهم يسبّون
الله سيد المؤمنين، وحيث سبّ سيّد العبد، فإنّ على العبد أن ينتقم لسيّده
لأنّه لا يرضى لسيّده وحبيبه أن يتطاول عليه أحد، أو أن يتّهمه أحد بما ليس
فيه، كأن يقول: أن سيّده وحبيبه وإلهه هو ثالث ثلاثة، أو أنّ فيه بعض صفات
النّقص كادّعاء الشّريك له، أو اتّهامه بعدم قدسيّة حكمته في شرعه وقدره،
أمّا إذا كان الرّجل من الصّنف الثّاني، وهو من عامل النّاس على أساس
معاملتهم معه فإنّه شاء أم أبى سيكون قد سيَّدَ ذاته، وألّه هواه، وهو لا
يلتفت إلى جانب رضى الله تعالى عن الخلق أو غضبه عليه، وهذا هو مظهر تأليه
الإنسان لذاته أو لغيره من البشر، وهذه النّقطة هي التي أوجدت الفقه السّيء
في أمّتنا نحو الجهاد والقتال، فالجهاد في ديننا هو في سبيل الله تعالى، أي
هو متعلّق برضى الله وغضبه، فنحن نقاتل من أغضب الله ولو أحسن إلينا أو ادّعى
الإحسان، ونحن نكفّ عمّن رضي الله عنه، ولو أساء إلينا كلّ الإساءة، وهذا
يظهر بوضوح في مسألة الخروج على الحاكم الكافر، فإنّه بمجرّد أن يكفر الحاكم،
يجب الخروج عليه، وبذل النّفوس رخيصة في سبيل ذلك، هذا بغضّ النّظر عن كون
الحاكم خرج عن الإسلام في نفسه، ولم يتعدّ كفره إلى غيره أم خرج من الإسلام
وتعدّى كفره إلى غيره، فعلّة الخروج هي الكفر بالله تعالى، وهذا الذي أمرنا
بهذا الأمر، هو الذي أمرنا أن نصبر على جور الأئمّة إذا وقع على الرّعيّة
كقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأطع أميرك وإن جلد ظهرك وأخذ مالك))، وعلى أساس
هذا الأمر ادّعى قوم عدم وجود جهاد الطّلب، وقصروا الجهاد على جهاد الدّفع،
وهذا الذي قالوه لم يقله أحد من الأوائل كما قدّمنا في مقال سابق عند
مناقشتنا لمحمّد سعيد رمضان البوطي، وهذا هو الذي دفع أقواماً إلى إنكار حدّ
الردّة، وزعموا أنّ الردّة التي يقاتل النّاس عليها هي الخروج المسلّح ضدّ
الدّولة، وليس هو الكفر بالله تعالى، وجعلوا يخبطون في الظّلمات بتأويلات
فاسدة مثل قولهم: إنّ قتال أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه للمرتـدّين هو
بخروجهم عن الدّولة وحكم أبي بكر، أي قتال سياسيّ حسب تقسيمهم، وليس هو قتال
من أجل حقّ الله تعالى، فأنت ترى العلّة في الخلاف ليست فرعيّة في فهم
النّصوص على غير محلّها، ولكن في فهمهم لحكمة الدّين وحقيقته، فهو خلاف بين
منهج ومنهج، والخلاف بينهما أشد من خلاف أهل الحديث والمعتزلة، لأنّ أغلب ما
قاله المعتزلة قاله هؤلاء وأشدّ منه كذلك، وموقف هذا التّيّار من منهج أهل
الحديث معروف، سطّر على ورقات كتب أصحابه.
وههنا هذه المدرسة التي
تضلّعت بالرأي الفاسد، والأصول البدعيّة اضطرت أن تقول لتوافق منهجها أن نترك
عداوة أعداء الملّة والدّين، وكلام جودت سعيد المتقدّم هو في حقّ
الفرانكفونيين العلمانيين في الجزائر وليس مع جماعة من أهل السنّة والجماعة.
حتّى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدو عليهم، وإنّما اختلفنا في
التّفسير، وهذا الذي قاله لا ندري أقاله لحظة جذبة عرفانيّة أم صحو وإفـاقة؟
فما هو الشّيء الذي اختلفنا في تفسيره؟ أهي آيات الله تعـالى التّشريعيّة
التي اختلفنا حولها؟ إذ أنّ العلمانيين في ذهنية هذا المفكّر هم قوم أخطأوا
في تفسير القرآن الكريم وأنزلوا آياته على غير محلّها؟.
ثمّ هل قضيّة
إظهار عداوتنا لأعداء الله خاضعة للرّأي أم هي من أسس توحيد
المسلم؟.
إنّ الله سبحانه وتعالى بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم لهدم
الأوثان وتجريد الطّواغيت من قداستها الزّائفة وهذا لا يقع إلاّ بعيب الآلهة
الباطلة، فقد كان منهجه صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله بيان ضلال ما
عليه البشر من عبادة غير الله تعالى، فقد عاب آلهتهم، وسبّ آباءهم، وسخر من
أوثانهم، لأنّه لا يتمّ التّوحيد الحقّ إلاّ بالبراءة من الطّواغيت وعبّادهم
كما قال إبراهيم عليه السّلام لقومه: {إنّا برءاء منكم وممّا تعبدون من دون
الله كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا بالله
وحده}. وهذا الذي قاله أبو الأنبياء عليه الصّلاة والسّلام قاله في زمن
الاستضعاف، وقلّة النّاصرين، وهو الذي فعله نبيّ الرّحمة والملحمة، فأمر
البراءة من الكافرين وعبادتهم ليس ممّا يدخل في باب المصلحة، فإنّ إبراهيم
عليه السّلام قال: {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء}، فقدّم العداوة وهي
أمر ظاهر بيّن غير ظنّي على البغضاء وهي أمر قلبيّ خفيّ، ثمّ ليعلم المسلم أن
قوله للعلمانيين: أنّنا اختلفنا معكم في التّفسير، هو تصويب لعبادتهم ودينهم،
وهو افتراض وجود الصّواب عندهم، وهذا أمر لا يقوله مسلم، فإنّ المسلم الموحّد
يجزم بكفر ما عليه العلمانيّون، وهكذا يظهر الخلاف مرّة أخرى بين منهج
العبوديّة لربّ الأرباب، وبين منهج تأليه البشر وأهوائهم، فإذا علّق المسلم
بغضه للكافرين بكونهم أعداء لله فلن يرضى إلاّ بأن يرمي الحقيقة في وجوههم،
ولا تدخل المصالح في هذا الباب البتّة، وأمّا إذا اتّبع المنهج الآخر فهو
سيبقى جاهداً لإرضاء خصوم الحقّ وأعداء الدّين.
و ههنا نصيحة لطلاّب
الحقّ وناشديه أن لا يلتفتوا إلى أقوال المعاصرين ولا ينتبهوا لها إلاّ بعد
عرضها على منهج الأوائل، فإنّ الدّين حقيقة أمره في الاتّباع وترك الابتداع،
وهذا أصل من أصوله التي لا يقوم إلاّ بها، وحيث ظنّ المرء أنّه قادر بذكائه
أن يبتدع ديناً جديداً فهو على خطر عظيم، وإن زعم انتسابه إلى الإسلام، فعليك
أخي المسلم بمنهج الأوائل فالخير كلّه في اتّباع من سلف. |