بين منهجين "56"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
بقليل من التّمعّن والنّظر يتبيّن للفاحص أنّ الخلاف بين مدرسة كفّ الأيدي
والصّبر وترك العنف والعمل الصّداميّ، وبين المدرسة الجهاديّة السّلفيّة ليس
خلافاً على باب من أبواب الفقه، وليس الخلاف حول مسألة فقهيّة، يسع النّاس
الخلاف حولها، بل الخلاف حول منهج ومنهج، بل يصل الخلاف إلى مستوى طبيعة
الفهم للإسلام وجوهره، حيث تنظر بعض التيّارات المذكورة إلى الإسلام من بُعد
إنسانيّ يعظّم الإنسان إلى درجة التأليه، وهذا يفرز صورة تعطي للعقل
الإنسانيّ حقّ إلغاء النّص تحت دعاوى أصوليّة كثيرة، مثل مدرسة "الغائيّة" أو
مدرسة "المصلحة" التي ينسبونها كذباً وزوراً للإمام أبي إسحاق الشّاطبيّ،
وأمّا المدرسة الجهاديّة فهي تتعامل مع القضيّة من بُعد واحد، وهو بعد
العبوديّة لربّ العالمين، وبه تلغى الأهواء التي تسمّى زوراً بالعقل والمنطق،
وشرح هذه المسألة يطول، وإن شاء الله نحاول تجليتها فيما هو آت من
مقالات.
أعمدة المدرسة المذكورة التي مثّل صورتها الأوضح جودت سعيد
وتلامذته، تبيّن لنا فساد ما قالوا في فهمهم للقصص القرآني، وقبل ذلك فساد
منهجهم في التّعامل مع الوحي، والمنهج الأصوليّ التّحليليّ للنّص، الذي أوصله
إلى درجة الدّعوة إلى إلغاء قدسيّة النّص، وكذلك في فهمهم للسّنن القدريّة
التي تتبجّح المدرسة أنّها رائدة هذا الباب وذلك أنّهم زعموا أنّهم أصحاب
دعوة إلى الدّراسات السننيّة في المجتمع والنّفس، ولا أدري إلى أيّ درجة من
الفهم الثّاقب وصلوا في تحليلهم لحركة الخميني، التي زعموا في أبحاثهم أنّ
حركته ومنهجه في رمي الورود ضدّ الدّبّابات، وإلقاء الابتسامات ضدّ فوّهات
البنادق هي التي ضمنت النّجاح لحركته ضدّ الشّاه وشرطته السّرّيّة
"السّافاك"، وجيشه الذي كان يحضّر كخطّ أوّل ضدّ الغزو الرّوسيّ من قبل
الإدارة الغربيّة! هل هذه النّتيجة التي خرجوا بها هي ممّا يستحقّ أن يدخل في
باب البحث العلميّ؟ أو لنَقُل في مرتبة الكلام الذي يُستحقّ أن
يحترم؟.
هل صحيح أنّ غاندي (أستاذ المدرسة الأوّل) بحركته السّلميّة
السّلبيّة المزعومة هي التي ضمنت له النّجاح ضدّ الآلة الإنجليزيّة في
الهند؟! فأوصلته إلى تحقيق أهدافه وذلك حين أصيب الجنديّ الإنجليزيّ بعقدة
النّدم فألقى السّلاح جانباً وترك الهند وشأنها؟! أصحيح أنّ هذه هي الدّراسات
السننيّة الواعية التي تتعامل مع الحدث باحترام وتقدير؟!.
لا أدري
والله أمام هذا الغثاء ما أقول؟ وأنا لست هنا بصدد دراسة حركة الخمينيّ لأنّي
أعتقد وإلى الآن أنّ حركته في التّغيير كانت كجبل الثّلج الطّافي على الماء،
إذ يمثّل الجانب المخفيّ منه أكثر بكثير من الجانب الطّافي، وحركة الخميني
ولا شكّ أصابت الكثير من الرّؤوس المفكّرة، والقيادات الحركيّة بالصّدمة، إذ
ظنّوها هي النّموذج الأصلح في التّغيير، فبعض الحركات خرجت بنتيجة اعتماد
نظريّة حركة الجماهير، وأنّ الشّعوب هي الرّقم الصّعب، وهي القادرة على خوض
المعركة، وتحقيق النّتائج، ولو أردنا أن نردّ على هذه النّتيجة بصورة مقابلة
لها تنقضها لرأينا أنّ تجربة الإنقاذ في الجزائر مثّلت الجانب السّلبيّ لهذه
النّظريّة، وأنّ الجماهير كعدد لا تشكّل الرّقم الصّعب في التّغيير، فلو قال
قائل أنّ العمل النّخبويّ الطّليعيّ هو القادر على تحصيل النّتائج لاحتجّ
بآلاف التّجارب الانقلابيّة في العالم القديم والحديث، فليس بمثل هذه الأبعاد
الفكريّة السّاذجة تناقش حركة التّغيير الانقلابية، لأنّ أعظم الباحثين
والعاملين في هذه المسألة سيقول لك: إنّ أعظم النّاس إدراكاً لطبيعة عدوّه
وحقيقته، ولطبيعة واقعه وحقيقته لن يستطيع أن يجزم بنتائج الحركة الثّوريّة
الانقلابية، بل إنّ النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري ما يفعل
به، ولولا الوحي الإلهيّ المبشّر بحصول الظّفر لما كان البشر - أيّ بشر - أن
يخبرنا جزماً بنتيجة حركة التّغيير وسبب ذلك أنّ حركة التّغيير الثّوريّ
الانقلابيّ هي من أشقّ ما يقع في الوجود من تفاعلات، وعناصر هذا التّفاعل
تشمل عناصر الوجود بأكمله، ثمّ إنّ من عناصر هذا التّفاعل هو الإنسان، وهو
ليس بعنصر جامد خالي الإرادة، فإلى أيّ درجة سيضمن القائد هذا الرّقم
المتغيّر، والجماهير على مدار التّاريخ ضعيفة الإدراك، يسيطر عليها عقليّة
وغريزة القطيع، فبلمسة ذكيّة تصبح الهتافات في اتّجاه معاكس إذا فقد اللاعب
بعض بريقه أو إذا دخل عامل جديد على هذا التّفاعل الواقع.
حركة
الخميني حركة معقّدة، دخلت فيها الكثير من العناصر، المعلوم منها والمجهول،
الأصيل فيها والدّخيل، فكيف لعقلي الصّغير، ولنفسيّتي التي تحلّل الأشياء
تآمريّاً أن أقبل القول أنّ الخميني بإخلاصه - مع كفره - قبلت منه فرنسا أن
يركب من مطاراتها وينطلق كمخلِّص لمجتمعه من نير العبوديّة للغرب، من غير أن
يقدّم الخمينيّ شيئاً من إخلاصه لشعبه مقابل هذا الصّنيع الفرنسي، بل
الدّوليّ.
نرجوكم: قليلاً من احترام العقل يا أصحاب العبوديّة للعقل
والمنطق، لأنّ ليس من العقل ولا من المنطق أن يقول لي جودت سعيد ومدرسته أنّه
بمجرّد أن أمر الخمينيّ الشّعب الإيرانيّ أن يواجه جيش الشّاه بالورود
والقبلات حصلت المعجزة ووقع النّصر وتحقّق السّرّ الذي لم تكتشفه الحركات
الإسلاميّة!!.
ويقال كذلك بمثل هذا القول في استشهادهم بحركة غاندي
ضدّ الاحتلال الإنجليزيّ للهند، ويقال هنا على الخصوص: لماذا ألغت هذه
المدرسة ما كان ظاهراً كنور الشّمس ضياءً ووضوحاً، وهو أنّ غاندي صنيعة
إنجليزيّة أوجدوها لتحقيق الهدف بسلب المسلمين حقّ قيادة الهند ورئاستها، إذ
من المعلوم أنّ حركة الجهاد في الهند كانت على أشدّها بقيادة العلماء
المسلمين من مدرسة "ديويند" ومشايخ أهل الحديث، فإنّه قد علم القاصي والدّاني
أنّه لم يُطلق طلقة واحدة ضدّ الإنجليز في الهند إلاّ من قبل المسلمين، فحركة
التّحرّر من الاستعمار كان المسلمون وقودها ودثارها، وأدرك الاستعمار
الإنجليزيّ أنّه لا بدّ من تركه للهند، ولا بدّ من وجود بديل وراءه يحقّق له
أهدافه، وهي صورة تكرّرت في كلّ البلاد، فلا بدّ من صنع الصّنم، فكان غاندي،
حيث طبّلت له صحافة الغرب وأظهرته بصورة القدّيس المخلص؛ رجل وطنيّ يلبس من
قطن بلاده، ويلتحف بلباس القدّيسين والزّهّاد، والأطمّ من ذلك هي عنزته، هذا
الحيوان السرّ، الذي يصرّ غاندي على اصطحابها في كلّ أسفاره حتّى وهو في
أوروبّا إذ أنّه يصرّ أن لا يشرب إلاّ من لبن عنز بلاده، وهي مهزلة تقتلك من
القهر، لما فيها من احتقار للعقل، والأدهى من ذلك أنّ النّاس يهلّلون - طبقاً
لعقليّة القطيع - ويعظّمون هذا القدّيس القادم من رحم الغيب "غاندي"، لكن
دعوني - بصفتي رجلٍ قرّر أن لا يلغي عقله - أن يسأل بعض الأسئلة، وهي أسئلة
بريئة شهد الله:
1) أكانت عنزة غاندي تأكل أم أنّها لا
تأكل؟.
2) أكانت عنزة غاندي تبرّز وتتغوّط أم أنّها من أصحاب
السرّ؟.
3) هل كانت العنزة تدفع أجرة الطّائرة في سفرها من الهند إلى
أوروبّا أم لا؟.
ولا أدري أفهمت الأسئلة أم أنّها أسئلة صبيان كما
يريد أن يجعلنا جودت سعيد ومدرسته؟.
على كلّ حال، كلّ سؤال من هذه
الأسئلة حوله الكثير ممّا يقال، ولست مستعدّا لشرحها وتوضيح ما يترتّب عليها
من نتائج، تلتقي مع وطنيّة غاندي أو تتنافر معها، لأنّ من لا يفهم المراد
منها رجائي منه أن لا يقرأ ما أكتب.
وفي النّهاية مضطرّ أن أقول:
لماذا كان الأمير السّعوديّ (أيّ أمير) وحاكم ليبيا الوطني مجانين حين يصرّون
على اصطحاب جمالهم في رحالهم، وشربهم من ألبانها، فيضحك منهم العالم ويقذفون
بأشدّ التّهم كالإسراف والخبل (وهم كذلك شهد الله، بل أشدّ من ذلك)؟، وأمّا
غاندي حين يصطحب عنزته فإنّه يصفّق له ويمجّد حتّى عند مدرسة جودت سعيد
السّلفيّة.. والسّلفيّة جدّا!!.
في المسألة سرّ!. |