منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "53"
   بين منهجين "53"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

الآيات المخبرة عن ابنيّ آدم ووضْعِها في شِرعة الإسلام لها جانبان من النّظر، جانب يلتقي معها، وجانب يفترق عنها، أمّا ذكر الجانب المتّفق معها فمعلوم اضطراراً وروده، ولكن قد يسأل سائل: ما فائدة أن يذكر القرآن الكريم جانباً من هذه القصّة والحدث ولا يريد من الأمّة المسلمة أن تتّبعه وتقتدي به؟ وبعيداً عن قول أئمّتنا السّابقين أنّ شرع غيرنا ليس شرعاً لنا، أو قول بعضهم إنّ شرع من قبلنا شرع لنا، والخلاف الدّائر حول هذا المصدر، فإنّ هذه الآيات فيها التأكيد العظيم على أنّ شّريعة الإسلام التي أتى بها محمّد صلى الله عليه وسلم هي أكمل الشّرائع، وأحقّ الشّرائع اتّباعاً ((فوالله لو كان موسى حيّاً لما وسعه إلاّ اتّباعي)) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا جانب الاتّفاق فهو:

أ) إنّ خطاب ابن آدم الصّالح لأخيه الآخر، هو خطابٌ عَلِمَ الأخ من أخيه أنّ تخويفه بالله قد يردعه ويردّه، وإلاّ فلو علم أنّ نفس الأخ غير متهيّبة لخطاب التّخويف من الله لما خاطبه به، ولكان هذا الخطاب عبثاً لا قيمة له، ثمّ تبيّن أنّ هذا الخطاب لم يجد نفعاً، وحيث تبيّن أنّ هذا الخطاب لم يجد نفعاً فكان لا بدّ من تغيير التّشريع ليوافق الحقّ، وهو عدم التّمادي في الظّلم، أو الاسترسال في تحقيق أهواء النّفوس بقتل الخصوم، وهذا هو جانب الافتراق كما سيأتي لاحقاً، إذاً فمقالة الرّجل الآخر: "اتّق الله" لن تفعل مفعولها إلاّ في نفس ترهب الله وتخافه، وهذا من جنس قول مريم عليها السّلام للملك الذي جاءها بالرّوح عيسى عليه السّلام: {قالت إنّي أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا}، فالاستعاذة بالرحمن لن يخفرها التّقي وهي استعاذة بكلمات الله الكونيّة لما خفي عن الإنسان من الجنّ وغيره وهذه تمنع البرّ والفاجر، واستعاذة بكلماته الشّرعيّة لما يراه الإنسان ويحسّه، فحين يقول المرء أعوذ بكلمات الله التّامّات من شرّ ما خلق فإنّ المقصود بهذه الكلمات هي الكونيّة وليست التّشريعية، فلو قال رجل مسلم لكافر: أعوذ بالله منك، وأراد الكافر قتله فإنّ هذه الكلمات لن تنفعه، أمّا إذا قالها لمسلم فإنّها تنفعه، كما نفعت كلمات المرأة التي لقّنت أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله منك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد عذت بعظيم، إلحقي بأهلك))، فإنّها نفعت مع من يعلم أن خفر ذمّة الله تعالى هي جريمة ومعصية توجب العذاب، فمريم عليها السّلام قيّدت نفع كلماتها - أعوذ بالله منك - ما إذا كان السّامع تقيّا، أمّا لو كان فاجراً فإنّه سيخفر ذمّة الله تعالى.

نعود إلى خطاب ابن آدم لأخيه: {إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك}، فهذا تهديد لمن يعلم قيمة الإثم ويؤمن أنّ وراء هذا الإثم عقابا، وهو الرّادع في قلب المؤمن، أمّا الكافر والعاصي الجاهل النّاسي فلن تردعه هذه الكلمات.

فالمؤمن هو الذي يخاطب بكلمات الله الشّرعيّة لأنّها عظيمة القيمة في قلبه، وأمّا غيره فليس له إلاّ كلمات الله الكونيّة.

المؤمن يقال له: اتّق الله، وعليك أن تخاف اليوم الآخر فيتذكّر كما قال تعالى: {إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}، وأمّا الكافر فهو الذي {إذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم}، فيتمادى في غيّه وعصيانه.

المؤمن تردعه كلمات الله، والكافر تردعه اللطمة وإن لم تنفع فالرّكلة، فإن لم تنفع فالإرهاب {ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم} فإن لم ينفع فقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ولن يردعهم إلاّ أن تخضّب الأرض بدمائهم {ما كان للنّبي أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض... فشرّد بهم من خلفهم}. وإعمال كلمات الله التّشريعيّة بالتّخويف للكافر هو هزل بآيات الله تعالى، وإعمال كلمات الله الكونيّة مع من يرتدع بالكلمات التّشريعيّة هو ظلم وتجاوز للحدّ، وكلّ له مكانه.

مدرسة الصّبر وكفّ الأيدي تريد منّا أن نقول للنّصيريّين وهم في ذروة حماسهم وسكرتهم: اتّقوا الله!!، فهل جرّبَتْ هذه المدرسة ماذا يقول المرتدّون في بلادنا وهم يعذّبون الشّباب المسلم فتخرج كلمات الاستغاثة من الشّباب قائلاً: أنا لائذٌ بالله أو ملتجئ إليه، فماذا كان ردّهم؟: ألم يخبرنا أولئك أنّهم ردّوا عليهم قائلين: لو حضر الله إلى هنا لسجنّاه معكم. (أستغفر الله وأتوب إليه).

لو أنّ المرتدّ دخل بيتك ليزني بأهلك فهل تمنعه من فعلته الشّنيعة بقولك: اتّق الله؟!، إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ولئن زنيت بأهلي لن أحقد عليك ولن أسمّيك عدوّا، إنّي أخاف الله ربّ العالمين؟!.

بل سأذهب معكم إلى بعد آخر، لو أنّ المشركين من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة بني قريظة، فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه أن يقتل رجالهم، فلو أنّ يهوديّاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليكفّ يده عن قتلهم: يا محمّد اتّق الله فينا!! فماذا سيكون جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. سيقول له: أنا بأمر الله الذي أتّقيه أقتلكم، ولولا تقوى الله ما حكمت فيكم هذا الحكم.

هذا أبو بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - يقول له النّاس عند توليته عمر بن الخطّاب من بعده: أستخلفت على النّاس عمر، وقد رأيت ما يلقى النّاس منه وأنت معه فكيف إذا خلا بهم، وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك، فقال أبو بكر: أبالله تفرّقني (تخوّفني)؟. إذا لقيت الله ربّي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. ا. هـ. الطّبري.

واليهودي يعتقد أنّه بقتله الأمميين يرضي ربّه، وكذا النّصيري والدّرزيّ، وكلّ ملّة تتعبّد إلهها بخصومتها للآخرين.

ولو ذهبنا نستعرض التاريخ الإنساني والإسلامي عن حالة واحدة تؤيّد اتّجاه هذا الفريق لما وجدنا، بل إنّ الآية ضدّهم، فإنّ تخويف ابن آدم لأخيه لم يمنعه من قتله، والعرب تفهم هذا، فإنّها قالت: القتل أنفى للقتل، والله تعالى قال: {ولكم في القصاص حياة } على كلّ حال: قال الله، قال الرّسول، كلمات لم تعد تخيف هؤلاء القوم، فليأتوا لنا بحالة واحدة درست دراسة علميّة تؤيّد سبيلهم.

ب) إنّ ممّا قاله ابن آدم الصّالح لأخيه: إنّي أخاف الله ربّ العالمين، فالمانع له عن بسط يده لأخيه حتّى في ردّ عدوانه عليه هو خوفه من الله تعالى، فهو يتعامل مع شرع مأمور به، وهو أنّه لو بسط أخوه يده له بالقتل فعليه أن لا يبسط له يده لقتله، امتثالاً لأمر الله تعالى، فهل مسلم اليوم يستطيع أن يقول ذلك، وهو مأمور بقوله تعالى: {وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} فأمر الله تعالى المسلم أن يقاتل من بينه وبينهم عهد بمجرّد ظهور بوادر الخيانة، فكيف من لم تكن بينه وبين المسلمين عهود ومواثيق؟!!.

ألم يقل سبحانه وتعالى: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم} فجعل كفّ اليد وترك القتال سبباً موجباً لعذاب الله تعالى، فأين هذا من ذاك؟!.

ألم يأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجل أن يفقأ عين النّاظر إليه في بيته دون إذنه؟، وقال: ((إنّما جعل الاستئذان من أجل البصر))، فهل انقلبت صورة الحجر التي تفقأ عين الظّالم إلى ورود في نفسيّة هذا التّيّار في هذا الزّمان؟!.

أليس هذا هو عين تأويل البعض لقوله صلى الله عليه وسلم: ((احثوا في وجه المداحين التّراب))، فكان من تأويل بعض فقهاء السّلاطين لهذا الحديث أنّ الذّهب من التّراب، والسّلاطين يطبّقون أمر الله تعالى، فمن مدحهم حثوا في وجهه الذّهب امتثالاً لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فصار التّراب ذهباً!، وصار فقء العين يعني أن تعلّق على ياقته الوردة حتّى تخجل عينه فيغلقها، فهذا هو عين الفقء!!.

هكذا تنقلب الأوامر الشّرعيّة إلى تأويلات جديدة تشابه تأويلات الباطنيّة.

آيات ابن آدم تصوّر لنا الحقيقة التّالية:

رجلان قد اختلفا: رجل يخاف الله فتردّه الكلمة و الموعظة، ورجل لا يخاف الله فوعظ وخوّف بالله تعالى فلم يرتدع، فلا بدّ من ردعه وردّه حتّى لا يتمادى في غيّه وظلمه، إذن لا بدّ من شيء آخر غير كلمات الله التّشريعيّة، وهي كلمات التّكوينيّة، فتطوّر التّشريع ليوافق الحقّ المطلق، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جانب الافتراق وشرحه إن شاء الله في الحلقة القادمة..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws