بين منهجين "51"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
قلنا: إنّ من غرائب الأقوال في هذا الزّمان، وهو من الحادثات التي
نبتت ولا يعرف لها سلف في التّاريخ - سلف مؤمن أو كافر - مذهب غريب يدعو
للعجب من القول، يدعو إلى نبذ العنف ووسائله وأهمّها السرّية، والعنف المقصود
به الجهاد والقتال. يقول هذا التّيّار:
إن سبب انتكاسة الحركة
الإسلاميّة، وعدم حصولها على أهدافها أو الاقتراب منها، هو تبنّي الحركات
الإسلاميّة للعنف، فحيث تبنّت الحركة العنف فإنّها أعطت الخصوم المبرّر
لضربها والإجهاز عليها، فلو أنّ الجماعات الإسلاميّة واجهت عنف الدّولة
بالصّبر وكفّ الأيدي، واحتملت الأذى، فإنّ الدّولة بعد ممارستها العذاب تلو
العذاب على المسلمين ستصاب بعقدة النّدم، وبعدها ستلقي السّلاح جانباً،
وبعدها سيكون وصول الإسلام إلى الحكم سهلاً ميسورا!.
جودت سعيد (وهو
إمام هذا المذهب المعاصر وصاحب كتاب "مذهب ابن آدم الأوّل") يقول:
أ -
أؤكّد أن لا نمارس العنف بجميع أشكاله، ونتقبّل العنف الذي يصدر من الآخرين
بصدور مفتوحة، وأن نجعلهم يملّون من ممارسة العنف بصبرنا على تحمّله، وعدم
مقابلة العنف بأيّ عنف، وإنّما نقابل العنف بقوله تعالى: {لا تطعه واسجد
واقترب}، وبقوله تعالى: {كفّوا أيديكم وأقيموا الصّلاة} وبقوله تعالى: {لئن
بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ
العالمين}، بهذا نقابل العالم. ا. هـ. سلسلة فانظروا (عدد43ص2) - وهي رسالة
موجّهة إلى الشّباب المسلم في الجزائر.
ب - ينبغي فوراً أن نقلّص
ونتخلّص نهائيّاً من الجيش والسّلاح، وخاصة الأسلحة المتطوّرة. ا. هـ. المصدر
السّابق (ص3).
ج - الجيش والسّلاح عقبة في سبيل تحرير
الأمم.
2 - يجب على الحركة الإسلاميّة تبنّي السّلم، وأفضل صور السّلم
هو الدّيمقراطيّة الغربيّة، يقول جودت سعيد: نحن ينبغي أن لا نرفض
الدّيمقراطيّة، وإنّما ينبغي أن نزيدها فعالية، وذلك بنشر المعرفة والعلم،
لأنّ الدّيمقراطيّة إن لم يكن وراءها علم ومعرفة فستعجز عن حلّ المشكلات. ا.
هـ. السّابق (ص2).
وعلينا أن نقبل بالدّيمقراطيّة حتّى لو أدّت إلى
إزالة الحكم الإسلاميّ إن وجد. يقول جودت سعيد: الذي أريد أن أذكّر به هنا هو
ماذا سيفعل المسلمون في المستقبل إذا بدأوا يخسرون الإمارة بالدّيمقراطيّة؟
هذا ينبغي أن يكون في البال ماذا سنفعل؟، هل نقبل ترك الحكم بالدّيمقراطيّة؟
أم نصير مثل الذي يعمله الآن السّكارى بالكراسي؟... ويواصل قائلاً: ينبغي أن
نصبر ونتذكّر قوله تعالى: {ولنصبرنّ على ما آذيتمونا}... الخ. السّابق
(ص3).
3 - ترك أيّ إشارة أو كلمة فيها عداوة لأعداء الدّين. يقول جودت
سعيد: أنّ نكون شهداء لله وقوّامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا وعلينا أن
ندرّب أنفسنا أن نكون كذلك، ونتواصى بذلك، ونتواصى بالصّبر عليه، حتّى أنّنا
لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدوّ عليهم وإنّما اختلفنا في التّفسير، والله
تعالى علّمنا أن نقول: {وإنّا وإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. ا. هـ.
السّابق (ص8).
4 - على الحركة الإسلاميّة أن تقبل التّحدّي وذلك
بالذّهاب إلى السّجون والرّضا بذلك وعدم الاعتراض عليه:
أ - انظر كتاب
ظاهرة المحنة لتلميذ جودت سعيد وهو الدّكتور خالص جلبي كنجو.
ب - يقول
جودت سعيد: إذا أخذ واحد من المسجد لأنّه علّم النّاس في المسجد، فلنملأ
مكانه ونقبل التّحدّي، ونقبل السّجن. ا. هـ. السّابق (ص4).
ويقول
كذلك: لا نضرب، لا نهرب، لا نطالب بالإفراج عن المسجونين، بل نطالب أن
يأخذونا نحن أيضاً إلى السّجن. ا. هـ. السّابق (ص5).
5 - عدم الاهتمام
أو الاستدلال بالكتاب والسنّة وإنّما العقل، يقول جودت سعيد: إنّني لم أعد
ترهبني قعقعة الكلمات: الرّوح، النّفس، أو الله، أو الرّسول، أو قال فلان
وفلان (وهي حسب السّياق، قبل هذه الجملة يعني قال الله، قال الرّسول) نريد أن
نتحدّث ماذا يحدث لنا، وكيف يحصل الفهم؟ وكيف نعرف ما فهمناه أنّنا فهمناه،
وكيف يحدث الفهم؟ وكيف انتقلت إلى هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السّماء،
ولنبحث في الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة. ا. هـ. سلسلة نشرة
فانظروا (عدد 40 ص 43).
ويقول: إنّ الذي سيعلّمنا ليس القرآن، وإنّما
نفس حوادث الكون والتّاريخ هي التي ستعلّمنا. ا. هـ.
السّابق(ص7).
ويقول: فالمرجع ليس الكتاب وإنّما العودة إلى الحدث أو
الشيء. ا. هـ. السّابق (ص7).
ويقول: إنّ صخرة ما أدلّ على نفسها من
كلام يقال عنها حتّى لو كان كلام الله. ا. هـ. السّابق (ص7).
ويصف
أوامر الله بالقتال بأنّها خرافيّة، يقول: نسأل الله أن يثبّتكم، وأن لا يفلت
الزّمام من أيديكم، وأن لا تستسلموا للأوامر الخرافيّة (أي أوامر العنف حسب
تعبيره). ا. هـ. فانظروا (43 ص9).
وفي لقاء مع خالص جلبي لأحد الإخوة
قال له: أنا أسجد للعقل. ا. هـ.
وكلام جودت سعيد في معرض الأمر
الشّرعيّ، وليس الخلق الكوني فانتبه.
هذه خلاصة أفكار هذه المدرسة،
مدرسة كفّ الأيدي والرّضا بالصّبر - من كتاب "مذهب ابن آدم الأوّل".. إلى
كتاب "ظاهرة المحنة" -.
أمّا الردّ عليهم: فإنّ أوّل ما يقفز لذهن
المسلم السنّي أمام هذا الغثاء هو القصّة التّالية: ذكر الذّهبي في "ميزان
الاعتدال" أنّه ذكر لعمرو بن عبيد (إمام من أئمّة المعتزلة) حديثاً يخالف
هواه، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلى الله
عليه وسلم، فقال عمرو: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذّبته، ولو سمعته من زيد بن
وهب لما صدّقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عزّ وجل يقول هذا لقلت: ليس
على هذا أخذت ميثاقنا. ا. هـ. فهؤلاء القوم لا ندري من أين نبدأ معهم، فهم
كما قال جودت سعيد: "لا ترهبهم الكلمات حتّى لو كانت كلمات الله"، وهم لا
يكنّون أيّ احترام لكلام السّلف، بل قد صرّح أنّه قد اكتشف شيئاً لم يعرفه
الصّحابة رضي الله عنهم، يقول جودت سعيد: إنّ المسلمين سواءً في زمن أبي ذرّ
أو الآن لم يفهموا هذا جيّداً. ا. هـ. فانظروا (عدد 43ص5).
وعامّة
احتجاج هذه الطّائفة بما فعل غاندي (مقدّمة الطّبعة الثّانية لكتاب ظاهرة
المحنة). وبما فعل الخميني (ظاهرة المحنة، وسلسلة فانظروا عدد43)، وبما فعل
عبد السّلام ياسين إمام جماعة العدل والإحسان المغربيّة، لأنّ هذا هو الحدث
أو الشّيء الذي ينبغي أن يعدّ مرجعاً وليس المرجع هو القرآن كما يقول جودت
سعيد (كما تقدّم)، إذن فهؤلاء القوم لا يرجى لهم عودة لأنّ البدعة قد استحكمت
فيهم كما يستحكم داء الكَلَبِ بصاحبه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
قال: ((لا يرجعون إلى الإسلام حتّى يرتدّ السّهم إلى فوقه)) انظر فتح الباري
(ج12/295) وما بعدها. فكما لا يعود البدعيّ عن بدعته، وإذا عاد فلا بدّ من
علوق بعض الشّيء فيه ولا يخرج منها إلاّ بنوع خاصّ من العلم، والله الهادي
إلى سبيل الرّشاد.
وهؤلاء القوم يتذكّر المرء معهم قوله تعالى: {قل هل
ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون
أنّهم يحسنون صنعا}، هذا هو اعتقادنا في أئمّتهم، وليعلم النّاس أنّ العقل
الذي يزعمونه هو عين الهوى، ولذلك فإنّ أمثالهم سمّاهم أهل السنّة قديماً
بأصحاب الأهواء، وإن زعموا أنّهم أهل العقل والمنطق، لأنّ مدار أمرهم على
رغبات النّفوس والتّشهّي، وليس على اتّباع الحقّ، وإلاّ فما معنى قولهم: أنا
لم تعد ترهبني الكلمات.. الله أو الرّسول أو قال فلان أو قال
فلان؟.
وما الفرق بين قول أهل الأهواء قديماً أنّ العقل هو اليقينيّ
والنّصّ هو الظّنّي، وقول جودت سعيد: فالمرجع ليس الكتاب وإنّما نفس حوادث
الكون والتّاريخ. بل قوله أشدّ افتراءً وكذبا.
إذا كان اعتقادنا في
هؤلاء أنّه لم يبق منهم مفصل إلاّ دخله الهوى، فنرجو أن يكون حديثنا مع من
بقي فيه بعض الخير، أو بعض خوف من كلمات الله تعالى، وسنأتي على عمد
احتجاجاتهم الشّرعيّة بدءاً من قوله تعالى: {لئن بسطت إليّ يدك...} الخ
الآية، لنرى كيف هي في شرع الله ودينه؟. |