منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "52"
   بين منهجين "52"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

كان من حجج هذا التّيّار البدعيّ الذي تحدّثنا عنه في الحلقة الفائتة هو استدلالهم بقوله تعالى على لسان ابن آدم: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين، إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار وذلك جزاء الظّالمين} المائدة (68-69). واحتجّوا بهذه الآية على أنّ مذهب الفطرة في الإنسان السّويّ هو عدم صدّ من أراد إيذاءه بل كفّ اليد عنه، ممّا سيدفع الخصم المعتدي إلى ترك السّلاح جانباً والاحتكام إلى العقل، ثمّ إثارة كوامن الخير التي ستدفعه إلى النّدم وعدم البطش بخصومه، وهذا كلّه سيجعل العاقبة للحقّ والصّواب، وهو الإسلام كما يعتقد هذا التّيّار، هذا هو خلاصة ما يريده كتاب جودت سعيد "مذهب ابن آدم الأوّل" وكتاب "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي. ويزعم هذا التّيّار أنّه عقلانيّ في هذا المبدأ إلى مشاشه، وأنّه يحتكم في صواب هذا المنهج ليس إلى التّفسير البيانيّ (اللغويّ) للقرآن، ولكن إلى الفطرة أو إلى التّاريخ والواقع، وأنّ العقل ومقتضياته تلزم الجميع بصواب هذا المنهج وأنّ خلافه جهل وخرافة، ومرض عصبيّ، يدفع المرء ليفكّر للاحتكام إلى السّلاح والقوّة في فضّ الخصومات بين أصحاب المذاهب الفكريّة، سواءً القابض على السّلطة أو غيره من الخصوم المقهورين.

وللرّدّ على احتجاجهم بهذه الآيات القرآنيّة له عدّة طرق، وكلّها تتدافع بنفس القوّة والتّدليل، ولكنّ الغريب في أمر هذا التّيّار هو أصوله التي يتعامل بها مع الوحيين، فالأمّة قد أجمعت أنّ الحكم الشّرعيّ مأخذه الكتاب والسنّة، وأنّ هذا المصدر نزل باللغة العربيّة، فأصول تفسير هذا المصدر وقواعد فهمه تعود إلى قواعد وأصول هذه اللغة، وليس هناك من قواعد يحتكم إليها في ذلك سوى قواعد البيان العربي، إلاّ ما أحدثه أبو حامد الغزاليّ من إدخال قواعد علم المنطق إلى أصول الاستنباط، وقد عاب العلماء عليه، وشنّعوا القول على صنيعه هذا، وكان أشدّهم نكارة هو الإمام أبو عمرو بن الصّلاح الشّافعيّ رحمه الله تعالى، وأمّا قبل ذلك فإنّ الأمّة مجمعة على تنزيل الكتاب والسنّة على أصول البيان العربي، قال الإمام الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - في كتابه العظيم "الرّسالة": البيان اسم جامع لمعان متشعّبة الفروع، فأقلّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعّبة أنّها بيان لمن خوطب بها ممّن نزل القرآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدّ تأكيد بيان من بعض، ومختلفة عند من يجهل لسان العرب. ا. هـ. (ص21).

ثمّ شرع الإمام الشّافعيّ رحمه الله تفصيل أنواع البيان في الوحي، وقسّمها إلى أقسام:

1 - ما أبانه لهم نصّاً ولا يحتاج لغيره.

2 - ما أحكم فرضه بكتابه (وأحكم هنا بمعنى أجمل أصله) وبيّنت السنّة تفصيله - أي هيئته -.

3 - ما أتت به السنّة وبيّنته ولم يأت به في الكتاب نصّ محكم.

4 - ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد.

ثمّ شرع في تفصيل هذه الأنواع واحدة واحدة، واستخلص منها أدلّة الحكم الشّرعيّ وهي الكتاب والسنّة والإجماع والقياس.

وهذا القسم الرّابع من أقسام البيان هو الذي تنكره الظّاهريّة، ومن جهلهم به حكموا أنّ مستويات البيان في الدّلالة واحدة لا فرق بينها، أي بين ما يعلم نصّاً وما يعلم اجتهاداً، واختلاف النّاس في توسيع دائرة السنّة وتقنين الشّروط في الأخذ بها هي التي تفرّق النّاس بين أثريّين وآرائتيّين، فكلّما وضعت ضوابط أكثر على السنّة كلّما قلّ الأخذ بها، وبهذا تتّسع دائرة الرأي، وكلّما أكثرنا الأخذ بالسنّة تقلّصت دائرة الرأي، وقاعدة الشّريعة تقوم على الاتّباع وتقليل الرّأي والاجتهاد.

نعود إلى ما سمّي بقواعد البيان التي سمّيت بعد ذلك بأصول الفقه، كون أصول البيان وقواعده هي نفسها قواعد استنباط الحكم الشّرعيّ، فكلّما زاد الرّجل معرفة في البيان وقواعده كلّما ازداد معرفة بمراد الوحي، قال الإمام الشّافعيّ: لأنّه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرّقها، ومن علمه انتفت الشّبه التي دخلت على من جهل لسانها. ا. هـ. (ص50 فقرة 169). فمن جهل لغة العرب ثمّ فسّر الوحي على أيّ جهة كان وبأيّ قواعد أخرى فقد أخطأ وإن أصاب، قال الشّافعيّ: ومن تكلّف ما جهل ولم تثبته معرفته كانت موافقته للصّواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة والله أعلم، وكان لخطئه غير معذور إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصّواب منه. ا. هـ. (ص52).

هذه القواعد التي قالها الشّافعيّ لم يخالف بها أحد من أهل الملّة قبل يومنا هذا إلاّ ما تقوله الباطنيّة، وهي التي تجعل الرّابط بين اللفظ والمعنى ليس هو الوضع اللغويّ، وإنّ قواعد استنباط الحكم الشّرعيّ من اللفظ ليست هي قواعد البيان، بل هي عندهم راجعة إلى سلطة أخرى غير سلطة البيان، مثل قواعد شيوخهم، وهؤلاء لا خلاف بين أهل الملّة في كفرهم وزندقتهم، حتّى المعتزلة لا يفترقون عن أهل السنّة في هذه القاعدة، وهو وجوب إرجاع تفسير النّصوص إلى قواعد البيان العربي، يقول الجاحظ وهو معتزلي: للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخرى، ولها حينئذ دلالات أخرى، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنّة والشّاهد والمثل. ا. هـ. كتاب الحيوان (مج‍4 ص289). فهو يجعل البيان العربي هو أساس وقاعدة تفسير النص، ولكنّه بصفته معتزليّا شطّ في فتح باب، أو لنقل وسّع باباً كان ضيّقاً، وهو أنّ الأصل في الألفاظ الحقيقيّة ولا يصار إلى غيرها إلاّ على استحالة حملها على الحقيقة ووجود القرينة. وهو الذي سمّاه المتأخّرون المجاز - فإنّه قال: ولتلك الألفاظ مواضع أخرى ولها حينئذٍ دلالات أخرى...الخ قوله. ولكن لم يختلف معنا المعتزلة في أساس سلطة البيان، فيقول الزّمخشري: وما يميّز به - أيّ إنسان - من سائر الحيوان من البيان هو المنطق - أي الكلام - الفصيح المعرب عمّا في الضّمير. ا. هـ. الكشّاف (4 ص442).

أمّا اكتشافنا لأهل البدع فعن طريق معرفتنا مغايرتهم في فهمهم للنصّ عن قواعد البيان فاكتشافنا لهم يتمّ بإرجاع أنفسنا وأنفسهم لما فهمته العرب، وعامّة ضلال أهل البدع يكون بسبب جهلهم بقواعد اللغة العربيّة، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه عن المبتدعة: من العجمة أوتوا. وقال عمرو بن العلاء - من أئمّة أهل السنّة - لعمرو بن عبيد - إمام المعتزلة في عصره - لمّا ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النّار، واحتجّ ابن عبيد أنّ هذا وعد، والله لا يخلف وعده، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذّنوب بالنّار والخلود، قال له ابن العلاء: من العجمة أوتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشّاعر:

وإنّي وإن أوعدته أو واعدتــه * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي


وقال بعض الأئمّة فيما نقل البخاريّ وغيره: إنّ من سعادة الأعجميّ أو الأعرابيّ إذا أسلما أن يوفّقا لصاحب سنّة، وإنّه من شقاوتهما أن يمتحنا وييسّرا لصاحب بدعة. ا. هـ. الرّسائل والمسائل النّجديّة (ج2ص10،11). فالبدعيّ أساسه الأوّل هو ترك الأصول العربيّة، ثمّ أساسه الثّاني: ترك المحكم إلى المتشابه، وهذا الثّاني في الحقيقة عائد إلى الأوّل، لأنّ من أصول البيان ردّ الفروع إلى الأصول، واتّفاق البيان وعدم اختلافه إذا صدر من حكيم. روى الإمام البخاريّ في صحيحه في كتاب التّفسير أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هو الذي أنزل الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاّ الله، والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكر إلاّ أولوا الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم)). صحيح البخاري (ج5،ص166).

والمتشابه ههنا ليس ما يذكر في كتب الأصول، ولكن شيء تختلف درجته في عدم دلالته على المراد في نفسه، فمنه ما يحتمل أكثر من معنى، ومنه مما لا يعلم حقيقته - لا تفسيره - إلاّ الله وليس هذا موطن تفصيل ذلك. لكنّ أهل البدع يتركون ما لا يفهم منه إلاّ مراد المتكلّم إلى ما يحتمل عدّة معاني (حيث وضع ابتلاء للنّاس وهو ما تنكره الظّاهريّة)، ولكنّ هذا المتشابه لم يترك للنّاس من غير بيان فلا بدّ من ردّه إمّا إلى المحكم أو إلى خاصِّه، فيأتي أهل البدع إلى هذا المتردّد إلى معنيين أو أكثر فيصرفه إلى ما يريده هواه، فأولئك هم طالبوا الفتنة، والواقعون فيها.

مدرسة كفّ الأيدي أتت بالعجيب من القول:

1 - أسندت حقّ تفسير الكتاب والسنّة للواقع والتّاريخ (وهو الحكم القَدَريّ) ولم ترجع حقّ التّأويل إلى اللسان العربي، بل احتقرت اللسان العربيّ كما تقدّم من كلام جودت سعيد، وهذا الذي قالته هذه المدرسة باطنيّة جديدة، فلو قال طبيب كافر إنّ بعض الخمر قد ثبت أنّه يشفي بعض الأسقام، وثبت هذا بحكم التّجربة والواقع، وسيرورة التّاريخ لوجب علينا أن نجيز القليل من الخمر ولا نلتفت لما فهم أهل البيان من كلام ربّ العالمين.

2 - يؤدّي هذا الأمر في هذه المدرسة إلى تفسير النّصوص تفسيراً جديداً، ويجعل للألفاظ العربيّة التي تكلّم الله بها في القرآن معان جديدة لم يعرفها الأوائل، ممّا يلتقي هذا الأمر مع أهل الحداثة الجدد - أو الزّنادقة الجدد - . وهذا التّجديد ستفرضه اكتشافات النّاس للواقع والتّاريخ كما يزعم هذا التّيّار...

أعتذر لانشغالي عمّا وعدت به في تفسير الآية كما هي في نفسها عند أهل العربيّة، لكنّ هذه المقدّمة كان لا بدّ منها.

وللحديث بقيّة إن شاء الله..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws