بين منهجين "54"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
قصّة ابني آدم عليه السّلام ككلّ القصص القرآنيّ فيها من العبر والعظات
التي تؤكّد حكمة الربّ سبحانه وتعالى، وتؤكّد الحقّ المطلق الذي جاء به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا إنّ في قصّة آدم جانباً يفترق عن شريعة
الإسلام، وهو جانب كفّ اليد عن المعتدي إذا أرادك بسوء وظلم، وقد نستطيع
القول إنّ هذا الجانب كذلك لا يفترق عن شريعة الإسلام، وهو كفّ اليد عن
المسلمين حتّى لو أرادوك بظلم وشرّ، وأن تكن كما قال صلى الله عليه وسلم: (كن
عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، وهذا قطعاً وجزماً هو مع
المسلمين من بني عقيدتك ودينك، فالحديث الأوّل يذكر في زمن الفتن الواقعة بين
المسلمين، وكذلك الحديث الثّاني، أمّا مع غير المسلمين فلا بدّ من استحضار
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النّار)) وهو حديث فيه
التّرغيب في قتل الكافر، فكلّما قتل المسلم من الكافرين كلّما باعد الله بينه
وبين جهنّم، وقد كان الصّحابة رضي الله عنه يتنافسون في قتل أعداء الله تعالى
كما في قصّة ابنيّ عفراء مع أبي جهل، فهما جانبان يحضران في نفس المسلم في
الوقت ذاته {أعزّة على الكافرين} {أذلّة على المؤمنين} لكن لو قلنا أنّ شريعة
ابن آدم الأوّل كانت تمنع بسط اليد إلى أيّ أحد كائناً من كان فما هو وجه
ذكرها في القرآن؟ ولماذا تذكر بعض الجوانب في قصص الأنبياء في القرآن الكريم
ممّا لا تلتقي مع شريعة الإسلام؟ فما هي الحكمة في ذلك؟.
إنّ المقارنة
بين الشّريعتين - شريعة الأوائل وشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم - مهمّة من
مهمّات القرآن الكريم، لأنّ فيها منّ الله تعالى على عباده في أمّة محمّد صلى
الله عليه وسلم بأنّه لم يشرّع لهم إلاّ الأفضل، ولم يعطهم إلاّ خير ما عنده
سبحانه وتعالى في علاه، فالأوائل استؤمنوا على كتبهم فخانوها وبدّلوها، فدلّ
هذا التّبديل والتّحريف أنّ النّاس لن يكونوا أوفياء لكتبهم، فمنّ الله تعالى
هذه الأمّة بأن نزع منها حقّ الحفاظ على الكتاب وألزم الربّ - جلّ في علاه -
نفسه بأن يحفظه {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} وكان الأوائل
يقتلون أنبياءهم، فعصم الله نبيّ هذه الأمّة من أعدائه {والله يعصمك من
النّاس} ومسيرة الأنبياء مع أقوامهم دلّت أنّ كلّ نبيّ أتى إنّما أعطاه الله
سبحانه وتعالى ما ظهر لمن قبله أنّ محتاج إليه، ولو تفرّغ بعض طلبة العلم
ليرى تطوّر منهج الأنبياء في الدّعوة لرأى العجب العجاب، ومع أنّ هذا
التّطوّر شرعي وربانيّ، أي أنّه وضع إلهيّ، ولكن مع توقيفه إلاّ أنّ الله
سبحانه وتعالى كان يعلّم عباده فوائد ما فرض عليهم من تطوّر جديد من خلال
تجربة النّبيّ السّابق، لتظهر حكمة الله تعالى في التّشريع الجديد، وليشعر
النّبيّ وأتباعه أنّ هذا الفارق كان له مايبرّره من حكمة الله تعالى، وهذا
كلّه من رحمة الله تعالى بعباده.
لقد كان سبحانه قادراً {لا يسأل عمّا
يفعل} أن يقيم هذه الحياة في أسس وجودها القائمة على الصّراع بين إرادة الله
سبحانه وتعالى وبين إرادة الشّيطان، إرادة الله تعالى التي تقدّم للنّاس
الحقّ، وتجزي على الخير الأجور المضاعفة، وبين إرادة الشّيطان التي تقدّم
للنّاس الباطل، وتجزي أتباعها يوم القيامة {إذ تبرّأ الذين اتُّبعوا من الذين
اتَّبعوا} وقوله لهم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي
فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} وغيرها من عبارات البراءة والإبعاد، وقلت: لقد
كان الله قادراً أن يقيم هذه الحياة على هذا الصّراع من غير المقدّمة التي
تمّت في السّماء والتي تبرّر هذا الصّراع على الإنسان، لكنّ الله سبحانه
وتعالى حكيم ورحيم بعباده، فإنّه قدّم لهم هذا الصّراع مع مقدّمة كونيّة
حقيقيّة لتكون أدعى لقبولهم وأرجى لاستجابتهم، فسبحانه في علاه يدعوهم إلى
الحقّ بكلّ الصّور التي تدفعهم للقبول والرّضا، إذ سبحانه لا يشرّع لعباده من
أمر إلاّ ويقطع لهم من الحقائق الكونيّة التي تثبت لنفوس البشر التوّاقة
للمعرفة أنّ ما قاله وشرّعه هو موافق لما خلقه وأبدعه {سنريهم آياتنا في
الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ} وهذا قد حدث مع حركة الأنبياء
وسيرتهم مع أقوامهم، فما من نبيّ إلاّ وقد أغنى النّبيّ القادم بعده بتجربة
يتواصل معها القادم ليعطي ثمرة أكثر ونتيجة أعظم، ولذلك فليس من الغريب أكثر
الأنبياء أتباعاً هم آخر الأنبياء، موسى وعيسى ومحمّد عليهم الصّلاة
والسّلام، وعدد أتباعهم كثرة على التّوالي، وأكثرهم تابعاً هو محمّد صلى الله
عليه وسلم، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى كما دعا
نوح عليه السّلام مدّة ثلاثة عشر سنة في مكّة فلم يستجب له إلاّ القليل كما
قال عن نوح {وما آمن معه إلاّ قليل}. ومحمّد عليه السّلام في دعوته على منهج
نوح لم يستجب له إلاّ القليل، فشرع لهم طريقاً آخر في الدّعوة وهو اجتماع
كلمة الحقّ مع القوّة والسّيف، فبهذه الطّريق دخل النّاس في دين الله تعالى
أفواجاً، هكذا ينبغي أن نفهم قصص الأنبياء في القرآن، وهي صورة المقارنة بين
طريقة الأوائل وطريقة محمّد صلى الله عليه وسلم ليعلّم أتباعه أنّهم هم
الأقوى طريقاً والأسلم منهجاً، فلا يحيدون عنه لأنّهم يرون نتائج الطّرائق
الأولى ونتائج طريقة المتأخّر، وللتّدليل على هذا الذي قدّمتُ أذكر هذا الأمر
وهو أنّ لوط عليه السّلام في صراعه مع قومه تمنّى أن يكون معه شيء آخر في
دعوته إلى الله غير الكلمة الحسنة في مجابهته لقومه الكافرين، قال لوط عليه
السّلام: {لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} فهذه العبارة التي قالها
لوط تحمل معها الدّعاء والرّجاء، إذ يتمنّى أن تكون معه قوّة لتساعده في
الدّعوة لأنّه اكتشف أنّه لا بدّ أن يكون مع الكلمة قوّة يقاتل بها وركن شديد
يؤوى إليه، فهذه تجربة نبويّة لا بدّ أن يستثمرها النّبيّ اللاحق وذلك بتشريع
ربّانيّ. فكان الذي بعده لا بدّ له من ركن شديد يأوي إليه، قال صلى الله عليه
وسلم بعد أن قرأ الآيات السّابقة {لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد}
قال: ((رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عزّ وجل -
فما بعث الله بعده من نبيّ إلاّ في ثروة من قومه))، فدلّ هذا على تطوّر مسيرة
الأنبياء في دعوتهم إلى الله بطريقة سننيّة، فإذا جاء تشريع جديد فهو بيّن
الضّرورة، واضح السّبب.
لماذا ذكرت قصّة ابني آدم في القرآن
الكريم؟.
لقد ظهر من قصّة ابني آدم أنّ النّفوس البشريّة لا ترتدع
بالكلمة، ولنقل إن الكثير منها لا يرتدع بالكلمة وهو الأصل في النّفوس، وأنّه
لا بدّ أن يشارك الكلمة الحسنة التي تقنع العقل بالصّواب أن يكون معها عصاً
تردع النّفس الرّاغبة في الشّر، لأنّ الإنسان قد يقتنع بالحقّ ويعلمه ويدركه،
ولكن يمنعه من اتّباعه هوى النّفس وشهواتها، فلا بدّ من علاج القسمين: الفكر
والنّفس، فالفكر يعالج بالموعظة والذّكرى والمجادلة، والنّفس ترتدع بالعصا
والسّيف، والرّهبة من العقاب، وهذا هو الصّواب في التّربية كما أمر صلى الله
عليه وسلم راعي البيت أن يعلّق العصا في بيته ليراها أهله تخويفاً لهم من
ارتكاب المخالفات، وتجربة ابن آدم الأوّل كشفت لنا هذا الأمر، فهذا أخ شقيق
(وجود العاطفة النّسبيّة الصّلبيّة) تدفعه نفسه إلى قتل أخيه رغبة في الشّهوة
النّفسيّة، فيعظه أخوه {إنّي أخاف الله} ويخوّفه العقاب {فتكون من أصحاب
النّار}، ولكنّ هذه الشّهوة أعمته عن العاطفة الأخويّة، وعن الموعظة العقليّة
وعن رؤية العقاب الآجل، فقتله {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله} ثمّ ذهب بعد
ذلك يتندّم {فأصبح من النّادمين}، لكنّ المعصية قد وقعت وقتل ابن آدم
الصّالح. فهل تشريع ابن آدم الأوّل نفع في منع وقوع المعصية؟ الجواب: لا. إذن
لا بدّ من تشريع يمنع من وقوع المعصية.
كلمات الله التّشريعيّة،
والعاطفة الجبلّيّة موانع ولكنّها ليست كافية، فجاء التّشريع الأخير، الخاتم
لكلّ تشريع وفيه الحقّ المطلق بردع العاصي عن معصيته {وإمّا تخافنّ من قوم
خيانةً فانبذ إليهم على سواء} و {فشرّد بهم من خلفهم} و {فاضربوا فوق الأعناق
واضربوا منهم كلّ بنان} و {وما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في
الأرض} و {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} و {واغلظ عليهم} و {وليجدوا
فيكم غلظة} و "قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " (وذلك في حكم سعد
ابن معاذ في بني قريظة في قتل رجالهم) حتّى وصل الأمر أن ترتعد فرائص الأعداء
بمجرّد سماع اسم المسلمين، وهذا تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت
بالرّعب))، لأنّ المسلمين هم قوم يتقرّبون إلى الله بذبح أعداء الله، فالذّبح
سجيّتهم، وبه يكون العالم سالماً من المعاصي والذّنوب إلاّ فيما قدّر الله
سبحانه وتعالى.
فشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم هي التي تمنع وقوع
المعاصي واستفحالها:
رجل سرق تقطع يده، فصاحب شهوة السّرقة
سيتحسّس يده ألف مرّة قبل أن يمدّ يده إلى دراهم غيره..
رجل يزني يرجم
أو يجلد، فصاحب الشّهوة ستموت شهوة الجنس عنده بمجرّد تذكّره حرّ الحجارة أو
ألم السّياط أو ذهاب سمعته بين النّاس..
رجل يريد أن يرتدّ سيجفّ حلقه
خوفاً قبل أن يستطرد ذهنه مع هذا الهاجس الشّيطانيّ.
أمّا شريعة ابن
آدم الأوّل فقتلته، فأيهما أهدى سبيلا.. ((أمتهوكون أنتم، والله لو كان موسى
حيّاً ما وسعه إلاّ اتّباعي))، فاتّباع سبيل ابن آدم الأوّل في مطلق كفّ اليد
عن الكافرين وأعداء الدّين.. تهوّكٌ وضلال.
وإن شاء الله فللحديث
بقيّة.. |