بين منهجين "57"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
إنّ ملاحقة أهل البدع وكشف سترهم هو منهج أهل الحقّ، وخاصّة إذا صار
البدعيّ داعياً إلى بدعته، مزيّناً لها أمام النّاظرين، ونعود ونكرّر القول
إنّ الخلاف الحاصل بين جماعات الجهاد السّلفيّة وبين غيرهم من جماعات العمل
الإسلاميّ الأخرى هو خلاف منهجيّ، وليس خلافاً فرعيّاً، ومدار الخلاف حول
الصّواب في فهم السّلف لتوحيديّ الشّرع والقدر، ثمّ حول المنهج الأصولي في
فهم النّصّ وتحليله، والذين يريدون أن يهوّنوا من شأن هذا الخلاف هم جديرون
بأن يخرجوا من زمرة الفقهاء لواقع المناهج المطروحة على السّاحة، ومن زمرة
أهل البصيرة لمناهج السّلف في التّوحيد والأصول.
لعلّنا أطلقنا القليل
من النّفَس في مناقشة مدرسة مذهب ابن آدم الأوّل كما يسمّون أنفسهم، وسبب ذلك
هو أنّ هذا المذهب تستقي منه أغلب جماعات نبذ العنف والعمل الصّدامي، فبعضهم
يستقي منه حتّى التّضلّع، وبعضهم يأخذ منه لمّة أو لمّات، بحسب ما يلائمه من
الهوى والاستحسان، وقد رأينا كيف تقلب هذه الجماعات حقائق الوجود، وتقريرات
الفطرة، وكان من أبرز ما دعت إليه من هذا الباطل ما قاله جودت سعيد، وكذا
تلميذه خالص جلبي من أنّنا علينا أن لا نرهب السّجن، ولا نعاديه، ولا نطالب
بإخراج المساجين من إخواننا، بل علينا أن نطالب بأن يذهبوا بنا نحن كذلك إلى
السّجن، وقولهم هذا واضح تمام الوضوح مخالفته لفطرة الإنسان السّويّ، فإنّ
الإنسان السّويّ يكره القيد ولا يشتهيه، بل يحاول جاهداً أن يخرج منه إن وقع
فيه، ولكن حيث أثّر قيح الفكر الصّوفيّ في كلّ جوانب الحياة، فغاير بين
الحقائق، فشتم الصّواب وعابه، ومدح الخطأ وشجّع عليه، وهذا الذي قالوه ينسجم
تمام الانسجام مع نتائج الفكر الصّوفيّ، فنحن نعلم ما يمدح التّلاميذ به
شيوخهم هذه الأيّام، حيث يقولون مثلاً: إنّ شيخنا - حفظه الله - لا يقرأ
الصّحف ولا يسمع الرّاديو ولا ينظر إلى التّلفزيون.. و...، فشيخنا مشغول طوال
وقته بين كتب الأوائل!!.
وهذا الذي قالوه يعيب الشّيخ ويحقره أكثر
ممّا يمدحه، وقد وجد كذلك من يمدح العزوبيّة في العلماء، لأنّ انشغالهم في
العلم منعهم من الزّواج، أو أنّهم كما قالوا آثروا العلم على الزّواج، ولا
ندري كيف يُمدح المرء بأن يجاهد نفسه ليغيّر فطرته وبشريّته؟ فهل يقوى؟
الجواب: لا.. بل نجزم أنّه يضيع الأوقات الكثيرة من تفكيره بهذه الفطرة التي
فطر عليها أكثر من انشغاله في بيته وزوجه إذا كان محصناً (هذا إن كان
سويّاً)، ويكفيه مدحاً أنّ الشّارع أطلق على المتزوّج لفظ
المحصن.
وهكذا بفضل الفكر الصّوفيّ تنقلب الحقائق، ومن أراد المزيد
فعليه بكتب طبقات الأولياء ليرى العجب العجاب أمثال كتاب: "جامع كرامات
الأولياء" ليوسف النّبهاني، و"الطبقات الكبرى" للكبريت الأحمر الشّعراني
وأمثالها.
فها هو جودت سعيد وتلميذه ثَمّ ومدرسته يريدون من الأمّة
ومن الأئمّة ومن الدّعاة إلى الله أن يذهبوا إلى السّجن باختيارهم، فهل قولهم
هذا ممّا يستحقّ أن يناقش من وجهة نظر شرعيّة، أم أنّ الأولى بنا أن نناقشه
من باب دخوله في أقوال المكلّفين أم المعذورين؟ أظنّ الثّانية هي الأولى مع
مثل هذه الأقوال، لكن ما يجب أن نقوله ونذكّر به هؤلاء النّوكى بحقيقة
السّجون في العالم المرتدّ، وهل يجوز للمسلم وقد علم حقيقتها أن يقول مثل
قولهم، مع التّذكير مرّة أخرى أنّ رسالة جودت سعيد التي قال فيها هذا القول
هي رسالة موجّهة للشّباب المسلم في الجزائر إبّان حمى الدّعوة إلى إحياء
الدّولة الإسلاميّة.
إنّ السّجن في العالم المعاصر وخاصّة في بلاد
الردّة لم يعد هو حبس فقط، حيث يوضع المرء في جبّ يمنعه من ممارسة بشريّته في
الحياة وحركتها؛ فيمنع من أهله وبيته وعمله، بل صارت السّجون آلاما لا تقوى
لها النّفس البشريّة بحال، وعلينا على الدّوام أن نتذكّر صنائع المرتدّين مع
المسلمين في كلّ وقت وحين، لتبقى قلوبنا ونفوسنا مليئة بالبغض لهم، وعدم
التّفكير البتّة بالعفو عنهم أو مسامحتهم، وإن أقلّ ما يحكم فيهم إذا ظفر
المسلم بهم هو حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في حلفائه من بني قريظة، حيث
حكم أن تقتل مقاتلتهم، وكلّ من بلغ منهم الحلم، وتسبى نساؤهم، وتغنم أموالهم،
وهو حكم الله تعالى من فوق سبع سماوات، لأنّنا للأسف ما نراه من ضعف ذاكرة
قادة الحركات الإسلاميّة مع خصوم الإسلام جدّ مؤلم، ولا تتلاءم مع طبيعة
المعركة بيننا وبين هؤلاء المرتدّين.
في تونس: عندما يسجن
المرء بتهمة الانتماء للإسلام، وهي تهمة يكفي لإثباتها أن يصلّي الشّابّ في
المسجد، أو أن تطلق لحيته، فيؤخذ بعد عذاب لا يعلم مداه إلاّ الله ثمّ يصار
به إلى السّجن، وإلى هنا فالأمر يمكن تصوّره، لكن هل يمكن تصوّر ما يصنع
بعائلته بعد ذلك؟ في هذا الظّرف تبدأ معاناة أهله في الخارج، حيث قال وزير
الدّاخليّة التّونسيّ: سنتابع الإسلاميين وسنحاصرهم حتّى تضطّر نساؤهم إلى
الأكل بأجسادهن. وعلى هذا فلو أنّ أختاً جاءت ودفعت فاتورة الماء والكهرباء،
وكان زوجها سجيناً بتهمة (الإخونجيّة) كما يسمّونها هناك، فإنّها تكون عرضة
للمساءلة: من أين أحضرت هذا المال؟ ولا يرتاح لهم بال حتّى تبيع الأخت نفسها
تحت وطأة الحاجة وتكاليف الحياة. فهل هذا هو السّجن الذي يريدنا جودت سعيد
وتلميذه خالص جلبي أن نسارع بالذّهاب إليه بأنفسنا حتّى نجعل السّجن مدرسة
ترتقي فيها أفهام الإخوة، ومجالاً رحباً للدّعوة إلى الله؟. ثمّ يصبح ذنباً
في هذا العصر إذا طالب المسلمون بإخراج المساجين؟ أهذه العقلانيّة التي
يدعونا إليها؟.
صورة من الأردن لما يمارسه أفراد المخابرات مع
السّجين المسلم هناك: جرّدوا الأخ من ثيابه، ثمّ ألقي أرضاً، وقام ضابط
من ضبّاط المخابرات الأردنيّة (ومن المهم التّنبيه أن أغلب، إن لم يكن كلّ
ضبّاط المخابرات وأغلب أفرادهم حجّوا إلى بيت الله الحرام، وهم لا ينادون
بعضهم البعض إلاّ بلقب الحاجّ فلان، بل أغلبهم يصلّي وبعض أفرادهم خرّيج
كلّيّة الشّريعة!!) وبعد أن ألقي أرضاً وهو مجرّد من ثيابه، قام ضابط منهم
(الحاجّ فلان) وخلع ثيابه من جهة عورته، ثمّ جعل يدير ذكره على لحية الشّاب
ورأسه وهو يقول مستهزئاً: دعنا يا شيخنا نتبرّك منك. هذا هو الواقع ولتجرحنا
الحقيقة بآلامها وقرفها.
فهل هذا هو السّجن- يا قوم - هو الذي يجب
علينا أن نسارع بالذّهاب إليه، حسب وصيّة هذه المدرسة؟
هل نتحدّث
عن سوريّا وحكّامها البعثيين والقادة النّصيريين؟ فنتكلّم عن مآسي
الأخوات المسلمات هناك؟ أو مآسي الشّباب المسلم في داخل السّجون؟ حيث يربط
الأخ في غرفة كالقبر، لا يزيد ارتفاعها عن أربعين سم، وتكون بقدر جسم الإنسان
طولاً، ويبقى فيها السّجين لا الأيّام والشّهور ولكن السّنين والأعوام (راجع
شيئاً من الآلام في بحثنا في "جواز قتل الذّرّيّة والنّسوان درئاً لهتك
الأعراض وقتل الإخوان").
هل سمعتم الدّكتور محمّد المسعري النّاطق
الرّسمي باسم لجنة الدّفاع عن الحقوق الشّرعيّة في الجزيرة العربيّة وعن
معاناته في السّجن وعمّا رأى وذاق وسمع؟.
هل قرأتم ما كتب بعض
المساجين المسلمين عمّا ذاقوه في سجون جمال عبد النّاصر، وكيف وصل
الحال ببعض المساجين إلى الجنون؟.
هل أصغيتم السّمع إلى ما يحكيه
البعض عن بطش وظلم صدّام حسين وحزبه البعثيّ؟ وعن فنونه في ممارسة
ساديّته ضدّ خصومه؟.
إنّ من يعلم هذا أو يعرف بعضه أو قريباً منه، ثمّ
يجعل من منهجه في إحياء دين الله تعالى أن يطالب الشّباب المسلم بالذّهاب إلى
السّجون باختيارهم، ثمّ يجرّب من يطالب بفكّ أسارى المسلمين، لهو جدير أن
يدخل في عداد المجرمين وأعداء الدّين، لا أن يصبح مفكّراً وزعيـماً لتيّار
يلتحق بركبه الشّباب، لكنّنا والله نعيش زمن العجائب، وهذه المدرسة من هذه
العجائب.
وإن شاء الله فللحديث بقيّة.. |