منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "60"
   بين منهجين "60"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

لو أراد باحث منصف أن يرى خصيصة تميز بها الصّادقون في هذه الأمّة، وشارة جمعت العلماء الأفذاذ لرأى بكلّ وضوحٍ هذه الخصيصة والميّزةَ هي الابتلاء، وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل)).. و ((يبتلى الرّجل على قدْرِ دينه))، ولكن ما يلاحظه المرء كذلك بوضوحٍ أنّ وصول القيادة في هذا الزّمان، واعتلاء منصّة الزّعامة (أعنى في الحركات الإسلاميّة) هو طريق لا يمرّ أبداً عن طريق الابتلاء والامتحان، بل يمرّ عبر طريق لا يعبّر بحق عن صدْقِ الرجل وانتمائهِ لهذا الدّين.

وعلى ضوء هذا يجوز لنا أن نسأل بعض الأسئلة البريئة مع بعض المقدّمات الضّروريّة:

أ) الذين يطالبون الأمّة باحترام العلماء لكونهم ورّاث علم السّلف، ولكونهم رفعوا راية السّلف، لو قلنا لهم التّالي: لماذا السّلف كان أمرهم ينتهي دوماً بالسّجن أو القتل أو النّفي مع أنّهم يعيشون في ظلّ دولة إسلاميّة؟، ولماذا زعماء وزاعموا وراثة السّلف ينتهي بهم الأمر في دولة مرتدّة كافرة أن يكونوا وزراءَ ومحظيين عند قادة هذه الدول؟ هل انقلبت السنّة الكونيّة في حقّهم؟ أم أنّ الجواب يكشف عوار ممثّلي راية السّلف المزعومة؟.

ب) الذين يريدون أن يُصفّوا الصّف المسلم من المنافقين والوصوليين ديدنهم الحديث عن كشف ما هو مكشوف، وفضح ما هو مفضوح، أي ما فضحه الخصوم لانتهاء مهمّته، فلماذا لا يمارسون فنونهم العبقريّة في كشف ما لم يكشفه الخصوم، وفضح ما لم يفضحه أهله؟.

ج) إنّ إطلاق الشّائعات الصّبيانيّة في حقّ الخصوم يتقنه كلّ جاهل وموتور، لأنّه سلاحٌ تستجيب له الأمّة الغبيّة الجاهلة، وهو لا يملك قوّة دفع كما يملك قوّة إثبات، فإذا قيل عن أحد أنّه مختَرَق فهو لا يستطيع دفع التّهمة، ولكنّها تهمة أدعى للقبول في زمن العجائب والصّغائر.

لماذا حين تطلق الشّائعات لا يذكر معها البرهان الذي أمر الله عزّ وجلّ بإقامته عند كلّ دعوى؟.

أمام هذا الواقع المرير، وهو واقع يفرزُ ولا شكّ السّلبيّات أكثر ممّا يفرزُ الإيجابيات، لأنّ المُلك فيه للشّيطان وحاشيته، وهو يدفع بضلالاته بقوّة نحو المجتمعات، أمام هذا الواقع ما هو السّبيل الأقوم لإفراز الثّقات، ومعرفة حقائق الرّجال دون لبس وتزوير، كذلك دون هروب من الحقيقة نحو الرّمل للاختفاء؟.

إنّ الجواب على هذه الأسئلة يدعونا أن نرجع إلى النّموذج المحتذى في تعريفنا بمنهجهم في معرفة الرّجال وأحوالهم وقيمتهم.

لقد كان في الصّحابة رضي الله عنهم علماء، وكان فيهم الأعرابيّ البوّال على عقبيه [كما قال الذّهبي].

لقد كان في الصّحابة رضي الله عنهم الأثرياء، وكان فيهم من يقع في صلاته لشدّة فاقته وفقره.

لقد كان في الصّحابة رضي الله عنهم الشّاعر البليغ، وكان فيهم عيّ الجواب والحديث.

لقد كان في الصّحابة رضي الله عنهم الصّانع الخبير، وكان فيهم من يخسر في كلّ تجارة يمارسها.

لقد كانت صور الصّحابة تتنوّع وتتضارب في قدراتهم ونماذجهم لكن كان هناك شئ واحد يجمعهم جميعاً بلا استثناء، ورابط يحوزهم بلا شذوذ، هذا الرّابط هو الجهاد في سبيل الله تعالى.

بل إنّنا نرى أنّ أغلب مسائلِ العلم التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - سواء كانت في التّجارة أو بقيّة الأحكام - إنّما تعلّمها الصّحابة رضي الله عنهم وهم في ظرف الجهاد في سبيل الله تعالى.

وأنا هنا لا أستطيع أبداً أن أُكثر الأمثلة، أو أستوعب بعضها في ذكر النّماذج التي تشهد لهذه القاعدة، أو لهاتين القاعدتين، لكنّي أدعو طلبة العلم وغيرهم إلى فتح وقراءة صحيح البخاري مثلاً (وهو أفضل نموذج لما أقول)، ويقرؤوه بتمعّن وتدبّر، ويحاول كلّ واحد أن يجمع ظرف الحديث الوارد، بمعنى أن يذكر الزّمن الذي قيل فيه الحديث، وأين قيل، لرأى أنّ أغلب مسائل الفقه في عموم الحياة كانت تقالُ في الجهاد في سبيل الله تعالى، وهاك بعض الأمثلة:

قوله صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه في ترغيبه له أن يتزوّج البكر: ((هلاّ بكراً تلاعبك وتلاعبها))، قالها صلى الله عليه وسلم خلال قفلةٍ من غزوة.

فقه التّيمّم من الجنابة أُخذ من حادثةٍ في غزوة.

حكم زواج المتعة، كان كلّه في الغزو من تحليل وتحريم مؤبّد.

جواز شركة الأبدان أُخذ من حديث يتعلّق بجواز الشّركة بين المجاهدين في الغنيمة.

والأمثلة أكثر من أن تحصى، وهي تدلّ دلالةً واضحةً أنّ عمل الأمّة التي ينبغي أن تعمل فيه - وكلّ عمل آخر هو تبع له - هو الجهاد في سبيل الله تعالى.

ولمّا كان عمل الأمّة بمجموعها - إلاّ من استثناه الشّارع الحكيم سبحانه وتعالى - هو الجهاد في سبيل الله، فكان المقدّم فيها هو أتقنهم لهذا العمل، وأكثرهم قدرةً على خوضِ غماره، فكان المُقدّم هو المجاهد في سبيل الله تعالى، وهكذا كان حال قادة الأمّة من خلفاء وأمراء، فلا يوجد خليفةٌ في تاريخنا الطّويل إلاّ وكان مقاتلاً مجاهداً، وفي أعلى مرتبةٍ من مراتبِ هذا العمل العظيم.

هارون الرّشيد، هذه الشّخصيّة العظيمة، والتي ملأها الكذّابون أخباراً مزيّفة عن بذخه ولهوه وقصفه، لو علموا حقيقته، لخجلوا من أنفسهم أشدّ الخجل، ولكنّهم في الحقيقة لا يخجلون.

هارون الرّشيد كان يغزو عاماً ويحجّ عاماً، وكان ينام على حصانِ جهاده حتّى تقوّست رجلاه من كثرة ركوبه عليه، ومات وهو في غزوة «الصّائف» جهة المشرق، وهو يجاهد في سبيل الله تعالى. لو قال قائل: لكنّه كان كثير المال، عنده الجواهر بالأطنان، والذّهب بالأرطال، والمال لا يُعَدّ بين يديه. قلنا له: صدقْت وهكذا كانت الأمّة، غنيّة مثلهُ، فلم يكن غنيّاً وأمّته لا تجد لقمة الخبز، كما هو حال الظّلمة والمتكبّرين، ثمّ قلنا لهم كذلك، هذا كلّه من فضل الله ثمّ من فضل الجهاد في سبيل الله، حيث أورثه الله تعالى بالجهاد ديار الظالمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((جعل رزقي تحت ظلّ رمحي)).

نقول هذا الكلام ردّاً على من يحاول أن يبحث عن القيادة الصّحيحة الحقّة للتّجمّعات الإسلاميّة، وكذا التّنظيمان والتّكتّلات، نقول: لن نستطيع شئنا أو أبينا أن نفرز قيادة حقيقيّة إلاّ في الظّرف الصّحيح لهذا الإفراز، هذا الظّرف هو الجهاد في سبيل الله. حين يبرز قائد تلتقي حوله الجماعة في ظروف الشّدائد والأهوال، والمصابَرة والمكابَدة، وهي ظروف قاسيةٌ، تكشف المعادن على حقيقتها، حينئذٍ يكون معدن القائد خالٍ من الشّوائب والكدَر، فهُو قائدٌ حقيقيّ يستحقّ هذا المنصب، بل المنصبُ يتشرّف به ويفخر، لكن في زمن الدّعة والخمول، بل في زمن المهانة والرّذيلة، وظروف الخسّة والعار، يأتي لنا شيخٌ معمّم مثلاً جلّ ما يملك هو إتقانه صنع الكلمة الحماسيّة، أو المنمّقة، فيأسرُ ألباب السّامعين، فيسارعُ الغثاء إلى تسييده وتأميره، فهل هذا هو الطّريق الحقيقيّ في اكتشاف القيادة الصّائبة؟ أو حين يَطْلُع علينا رجل ملك البريق الدِّعائيّ، سواء بقدرته على إنشاء مجلة أو نشرة أو جريدة، بها استطاع أن يشرف على الناس، فيعرفونه كاتبا مرموقا، أو سياسيا خبيرا، فهل هذا هو الطريق الصائب للقيادة الحقيقية؟.

هذه أمثلة وعليك أن تقيس عليها، لتعلم أن القيادة الحقيقيةَ إنما تُعلم بالجهاد في سبيل الله تعالى، في زمن الصِّعاب والشدائد.

وتذكَّر أخي الحبيب أنَّ حديثنا هنا عن حقيقة القيادة، وطريقة ثُبوتها، وليس عن حقائق أخرى ووظائف أخرى، فإن كل وظيفة لها الطُّرق الخاصة بها والسبل الصحيحة لاكتشافها، فكن ذاكرا لهذا، والتوفيق إن شاء الله حليفك.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws