منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "70"
   بين منهجين "70"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

لا يستطيع المرء إلاّ أن يعترف أن المعركة ضدّ الإسلام شرسة وقاسية، وأن كلّ مبدأ وشخص خارج دائرة الإسلام هو محارب لهذا الدّين، ومنذ مبعث النّبي صلى الله عليه وسلم والقضاء على هذا الدّين هاجس الشّيطان وجُنده وذلك كما قال تعالى: {ولا يزالون يُقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا}، ولكن كذلك من الفهم الصّحيح لطبيعة هذه المعركة أن نعتقد ونعترف أنّه ما كانت هذه الخصومة من قبل الصّفوف المتراصّة خارج دائرة الإسلام أن تؤتي أكلها، وتُثمر مجهوداتها إلاّ بسبب حصول الضّعف والهزيمةِ في داخل المنضوين تحت دائرة الإسلام ورايته.

لقد كانت جهودٌ تقوم بها طوائفٌ من المنتسبين للإسلام، وهذه الجهود تصنع الأرضيّة الصّالحة لغرس ثمار الشرّ القادمة من الخارج، وتمهّد لقبول الغزو الخارجيّ.

بنظرةٍ يسيرة نُدرك أنّ أمّتنا فيها أمراض ذهنيّة وأمراض نفسيّة، والعلاقة بينهما علاقةٌ تضامنيّة ومضطردة، كلّ مرض يدفع المرض الآخر للارتقاء والتّنمية، النّفس تمدّ العقل بالهوى، والعقل يبرّر هذا الهوى على صورة أفكار تحمل سمة العلم والبحث، ومنشؤهما: الظّنُّ والهوى {إن يتّبعون إلاّ الظّن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربّهم الهدى}، وجذور الأمراض النّفسيّة هي نفسها جذور الأمراض الفكريّة، لكنّ الغَريب أنّ سبب هذه الأمراض هو الدّعوى أنّ الأمّة بحاجة لمناهج جديدة وطرق جديدة لصدّ الخُصوم الخارجيين. وتحت دعوى تطويرِ الخِطاب يتمّ تطوير المضمون (أي حرف المضمون)، فيتجدّد الدّين أي يصبح شيئاً جديداً لا يعرفه الأوائل.

كيف تنشأ دعوى تطوير الخطاب الدّيني؟: نحن أمام تجربةٍ سبقت في تمرير مفاهيم بدعيّة ضلاليّة، وقد قاومتها الأمّة أحسن مقاومةٍ ولكنّها استطاعت لأسبابٍ قد نأتي على ذكرها يوماً ما أن تقتحم السّور وتستقرّ في داخله كممثّلة وداعية للإسلام الصّافي.

مضمون الدّين مرتبط بطريقة الخطاب ارتباطاً حتميّاً، وما من محاولةٍ يقوم بها أهل الأهواء لتطويرِ الخطاب إلا ويكون القصدُ (ويقع بالفعل) حرف الدّين عن مفاهيمه الصّحيحة، وما من محاولة لحرف الدّين عن مفاهيمه الصّحيحة إلاّ ويضطر أصحاب هذا الانحراف إلى استخدام ألفاظٍ جديدة وبُنى للخطاب الدّينيّ، وخلال مسيرة التّحريف يرفع أصحابُ الأهواء راية التّقدّميّة والعقلانيّة وينبزون خصومَهم بألقاب الرّجعيّة والحشويّة والتّزمّت.

وعلى الرّغم من أنّ أهل الأهواء في هذا الباب تتفاوتُ مراتبهم وتتباين إلى درجة عالية إلاّ أنّ أغلبهم يريد أن ينشئ فقهاً جديداً، وتسيير بدعةٍ جديدةٍ بين المسلمين.

مراتِبُهم تتفاوت من نبز الخصوم (والخصوم هنا هم أهل الحديث والأثر) بالعقليّة الفقهيّة، إلى درجة تسميتهم بالأرثوذكسيّة الإسلاميّة.

أصحاب الأهواءِ هؤلاءِ ليسوا بدعة نابتة في يومنا هذا، بل لهم امتداد زمني منذ (1200) سنة هجريّة مضت ودعوى الإبداع هي دعوى خبيثة لا جذور لها، بل هي قائمة على الكذب والتّضليل.

فالمعتزلة يسمّون أهل الحديث بالحشويّة، وقصدُهم من ذلك أنّ أهل الحديث لا يُعملون عقولهم في النّص، بل دورهم التَّقليد والإتّباع وهو دور العَوام وضِعاف العقول من الناس أي حشو الناس. وسموهم كذلك غثاء وغثراء (أي سفلة الناس). وكذا قلد المعتزلة المتكلمون من أشاعرة وماتريدية. أمّا هم فذهبوا يتقنَّعون بأردية الألقاب الرنّانة كأهل العدل والتوحيد، وأهل الحِكمة والنَّظر، وأبصر النّاس بمقاصد الشريعة، ومآلات الأمور.

أمَّا تفاوُتهم الذي تكلّمنا به فهو واقع ولا شك في عصرنا هذا، ولكنَّهم كلُّهم يجمعون على تحطيم الذُّهنية الفقهية في التعامل مع الأمور، ويأنَفون من الأبحاث الأصولية التي تنهج الطريق السلفية في البحث والنظر.

إن العقلية الفقهية هي التي تحمي المرء من الانزلاق في الأهواء الرديّة تحت دعوى حرية البحث وتجديد الخطاب الديني، أو تحت دعوى وجود اختلاف وجهات النظر الفكرية، وقبل أن أضرِب الأمثلة على هذه الطّريقة الخبيثةِ فإنّ علينا أن نتذكَّر أنَّ هؤلاء القوم يزعمون أن قيامهم بهذا المطلب - وهو تجديدُ الخطاب وبالتالي تجديد المضمون - إنَّما هو لحِرصهم الشديد على إعطاء الإسلام قوَّة وآليةً جديـدة لتستطيع الوقوف أمام المد التّغريبي العاتي. لقد سمح المبتدعة الأوائل لأنفسهم هذا الابتداع وهذا التطـور المزعوم تحت دعوى موافقة الشريعة للحكمةِ اليونانية، حتى لا ينشأَ في عقولِ العوام الاهتزاز من صلاحية الشريعةِ وصواب مقولاتها.

التّفاوت يمتد من العلمانيّة المائعة (وهو اصطلاح يُطلقه العلمانيّون المُلحدون والذين يرفضون التّبرير للعلمانية من خلال مرجعيّةٍ مقدسةٍ مثل القرآن والسنّة، وإنّما مرجعيّة العلمانيّة عندَهم هو الإنسان مستقلاًّ، والمقصود عندهم بالعلمانيّة المائعة أي الذين يبررون للعلمانية ويحتجون لها بالكتاب والسنة التراث) وهذا الأساس يدخل في قيده كمية هائلة من المثقّفين والمفكِّرين (كما يحلوا للناس أن يسمونهم) وعلى رأسهم:

1 - حسن حنفي: ومشروعه التُّراث والتّجديد، وانظر كتابه «من العقيدة إلى الثورة».

2 - محمد عابد الجابري: ومشروعه نقد العقل العربي ويقصد العقل الإسلامي.

3 - محمد أركون: ومشروعه نقد العقل الإسلامي.

وغيرهم الكثير.

قلنا إن التَّفاوت كذلك يمتدُّ من العلمانيّة (المائعة!) إلى الأرائتية من مفكري الإسلام وبعض فقهائه المتميِّعين أمثال:

1 - راشد الغنوشي. 2 - حسن الترابي. 3 - محمد الغزالي وغيرهم الكثير.

بل يصل هذا الأثر إلى بعض المنتسبين إلى مسميّاتِ السلفية والجهادية وغيرها، فقد نشأ في هذه المسمّيات من يقدح ويستهزئ بالعقلية الفقهية، والمنهجيّة السّلفية في البحت العلمي والتحليل.

وقد يكون من المشاريع الهامّة جداً في هذا الظّرف نصب المجانيق وتجهيز الجيوش لغزو هؤلاء المبتدعة ودكِّ حصونهم، وكشف مآلات أفكارهم وضلالها، من أجل إعادتها إلى جحورها مهزومة خاسئة كما فعل أسلافنا.

صحيح أنّ هؤلاء فقدوا أسباب النّصر ومن أهمِّها عدَم توفيقهم لخطاب الفِطرة كما هي طريقة القرآن الكريم والسنّة النّبوية والسلف الصالح فبقي خطابهم نخبويّاً أكاديمياً لا ينزِل إلى مستوى حركة الشّعوب والتأثير على الإنسان إلا أنّ خطورته تكمُن في آثاره التي ستبقى عالقة في أذهان بعض قادة الحركات الإسلامية ممّا يجعل المرحلة القادمة تتهيأ لنصر هؤلاء المتكلّمين الجُدد. وذلك كما انتصر المتكلمون القدماء في كسب الساحة إلى صالحهم.

لقد فشل المعتزلة فشلاً ذريعاً، وخرجوا من المعركة مع أهل السنّة بخفَّيْ حنين حتى أنَّ تراثهم لم يبق منه إلا شيء يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، ولم يبق من كلماتهم وأفكارهم إلاّ التي حفظت كتب المقالات والفِرَق، ولكنَّ أفكار المعتزلة وطروحاتهم ومناهجهم تطورت مع جماعة من المبتدعة، إذ تشرَّبوا منها بعض نفثاتها وأصابوا من أفكارها كما أصابت الأفكار منهم فنشأ ما يسمّى بالمتكلمين من الكلابيّة والأشاعرة والماتريدية، وبقليل من الجهد و التّحالف مع الفكر الصّوفي الغنوصي استطاع هؤلاء المتكلِّمون أن يُحكموا سيطرتهم على النِّتاج الإسلامي والسَّاحة السِّياسية والمنهجيَّة في العالم الإسلامي.

وبصورةٍ أوضح نقول صحيح أن عمرو بن عبيد والجهم بن صفوان والغزال وأبا هاشم الجبائي وأبا علي الجبائي وغيرهم من مشايخ المعتزلة لم يتقلّدوا قيادة الأمّة، ولكن مهّدوا الطّريق، وسهّلوا المهمّة لمن جاء بعدهم من فراخ المعتزلة، حتى صار هؤلاء المخانيث (أي فراخ المعتزلة من أشاعرة وماتريدية) هم قادة الفِقه والفهم في تاريخ أمَّتنا، وبالتالي لنا أن نطلق صرخة التَّحذير مع عدم خوفِنا مِن تَقَلُّد العلمانيين المائعين لقيادة الشباب المسلم والتيارات الإسلامية في البلاد، ولكنَّ صرخة التّحذير من تولِّى أفراخهم ومخانيثهم لهذه القيادة في الزمن الحاضر والمستقبل.

إنّنا نرى بعض أثار هذه الأفكار بدأ يغزو وبقوةٍ وبُطءٍ الشَّباب المسلم، وبدأتْ مظاهره على صورة احتقار الخطاب الفقهي الصَّارم: هذا حلال، وهذا حرام، إلى دعوى جديدة وهو احترام وجهات النَّظر، والسماح بالتفكير إلى أبعد الحدود وفي المقدسات.

لقد بدأ بعض الشباب ينبز العقلية الفقهية والخطاب السلفي بالتخلف، وأنه خطاب غير حضاري، ولا يلائم هذا العصر ولا يوافقه. لكن علينا أن نتذكَّر نقطةً مهمة ومهمة جداً وهي أنّ الخطاب الفقهي هو الذي يحفظ لهذا الدين جوهرته لأنه يحمل في ثناياه - بل في كلِّ ثنيةٍ فيه - وكلِّ لفظٍ فيه حقيقة هذا الدين، وأنَّ هذا الدين هو خطاب الرَّب لعبيده، وأن القصد من هذا الخطاب هو تحقيق الدين في العبيد، بأن يصبح متديِّناً تديّناً إسلاميّاً، وإنَّ أقلَّ ما يصنع هذا الخطاب البدعي المنحرف رجلاً مفكراً تفكيراً إسلامياً، ويظهر هذا واضحاً بين شخصيّتين ومَثَليْن، فلو نظَرْت إلى صورةٍ نموذجيةٍ لهؤلاء المبتدعة الجُدُد لرأيت أن مجرَّد الحديث عن الالتزام العلميِّ بالإسلام هو داخل في حديث النكتة والطَّرافة، وإنَّ رجلاً من رجالات الفكر الإسلامي كالعقاد مثلاً كان يعقد ندوته الأسبوعية وقت صلاة الجمعة، وهو مثال عليك أن تضربه بعشرة هذه الأيام لتعلم مِقدارَ التزام هؤلاء المفكِّرين بالإسلام وتشريعاته.

الخطاب الحضاريُّ المزعوم القصد منه إفراغ الإسلام من حقيقته وجوهره وأنه دين جاء للناس ليَمتثِلوا أمره، ويخضعوا له، الخطاب الحضاري المزعوم يصنع شخوصاً تؤمن بالإسلام الحضاري على صورة أفكار ممتعة نتداولها في سهراتنا وندواتنا وأحاديثنا.

لقد بدأت بِذرةُ الخُبث تطلُّ برأسها من احتقار الحديث عن الفقه وأحكامه، وعن المجال الذي يهمُّ الإنسان الفطري وهو العمل، إلى الحديث عمَّا لا فائدةَ فيه سوى كونه مُتعةً مشروعةً إذا كان بعد العمل.

إنَّ أئمَّتنا كانوا يكرهون من الحديث ما لا يَتبعه عمل، وقد ألَّف الإمام الخطيب البغدادي كتاباً سماه «اقتضاء العلم العمل». وقد كره السّلف الكلام في الخطرات والوساوس، حتى أنَّ الإمام أحمد بدّع الحارث المحاسبي لكتابته هذا النَّوع من العلوم لأنه لا عمل تحته، وهو إشغالُ النَّاس بشيءٍ لا فائدة فيه، أو لِنَقُل فائدته أقلّ من غيره.

العقلية الفقهية، والمنهج السلفي يحفظ لنا استقلالنا، ويعرِّفنا بأقرب طريق ماذا يريد الله منَّا، وإن معرفتنا لمراد الله من أجل العمل هو مقصد خلقنا.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws