![]() |
طبع المادة كاملة 1 ... |
بين منهجين "65" |
بين منهجين "65"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني تحت شمس الجهاد اللاهبة ظهرت حقائق الوجود، والإنسان من هذا الوجود،
فتعرَّى الإنسان، وآب كل صنْفٍ إلى قسيمه، فعرف الناس أنفسهم، وعرف الناس
إخوانهم وأعداءهم، ولم يكن ليظهر هذا كله إلا بسبب شمس الجهاد ونورها
الكاشف. صورةٌ لرجلٍ لا تأخذهُ في الله لومةُ لائم، لا يعرفُ إلاّ محبّة اللهِ ومحبّة رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وشائجُ القربى بينه وبين النّاسِ مقطوعةٌ إلاّ ما وصلها الله وأمر بوصلها، لم يُرِد رضي الله عنه أن يتشبّه برجلٍ منافقٍ، استغلَّ وجوده في الصّف المسلمِ لتمريرِ شبكةِ علاقاتٍ قائمةٍ على أصولٍ جاهليّةٍ فاسدة، أو يبني علاقةً على حساب الإسلامِ والمسلمين، وفي هذه الصورة المعروضةِ تظهر لنا أنّ الشّخصيّة الصّحابيّة قد بلغت من الرّقيِّ الفِكْري والنّفسيّ إلى درجةِ ما يحبُّ الله تعالى وما يرضيه قبل أن تسمع الخبر الإلهيّ، فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم شهد لحُكمِه أنّه هو حكم الله تعالى، وقد كان رضي الله عنه في منطقةِ الاختيار الجائز للطّرفين، ولكنّه لمّا وصل إلى درجة القُرْب من عبوديّته لسيّده -جلّ في علاه- صار يعرِفُ ما يريدُه سيّده، وما هذا إلاّ بسبب الطّاعات وكثرة القرب كما قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسيّ: ((وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه))، ثمّ انظر إلى دعائه الأخير، والذي يكشِف فيه سبب رغبَتِه في زيادَة العُمر إن كانت ثمّ فائدة، وما هي هذه العلة التي من أجلها يطلب طولَ العُمر: إنّها مقاتلة المشركين: "اللهم إن كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئاً فأبقني لها". إنّ الحياة ليست بطول السّنين ولا بكثرة الأيَّام، وليس جمالها برغَد الطّعام ولينِ الفراش، ولكن إن كان ثمّة رغبة في الحياة فهي بسبب الجهاد، وهذه نفسيّة أغلب أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فهنـاك قولٌ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه شبيه بقول سعد، وكـذا لخالد بن الوليد، ولأبي بكر رضي الله عنهم جميعاً، وكلّها تشهَدُ أنّ الجهاد صار هاجس النّفـس، ومنتهى الطّلب، وغاية المُنَى، وإن كان الله تعالى قد كتب الجهاد وهو كُرهٌ للبشر كما قال في كتابه - جلّ في علاه -: {كُتِبَ عليكُمُ القِتال وهو كره لكم}، فإنّ تلك النّفوس ما زالت تترقّى وتتعالى على شَهَوَاتِها حتّى صار الجهاد شهوتها ورغبتها: إنّ هناك لفارقاً كبيراً بين جيل كان يطلب الإذن للقتال، وإذا سمع شرّاً بادَرَ بمعالجته بالسّيف: "أفلا ننابذهم؟"، وبين جيلٍ يلتمسُ المعاذيرَ والحُجَج الهزيلة لإسقاط الجهاد أو تعويقه أو تأجيله. إنّه لشتّان بين هذين الجيلين؟. لقد كان لحكم سعدٍ بن معاذ رضي الله عنه - هذا الحكم الرائع - على بني قريظةَ موجباتٌ ومقدِّمات عقليّة ونفسيّة، وهذه العقليّة والنفسيّة قد شكّلها مبدأ الجهاد أوّلاً، ثم مسيرةُ الجهادِ ثانياً، وخاصّة حدثُ الأحزاب، إنّه لا يُمكن أن يَصدُر هذا الحكم بلا مقدِّمات موضوعيةٍ حقيقيةٍ: رجلٌ بينه وبين قومٍ وشائجٌ وصلاتٌ هي من أقوى الصلات بين الناس يومَ ذاك، ومن أجلها يبذلون الأرواح والأموال والطّاقات، فالحليف كان ينصر حليفه حتى لو أدت هذه النُّصرة إلى المهالك، ثمّ هذه الوشائجُ والصِّلات بإنشاء الأحلاف لم تكن تنشأ من فراغٍ نفسي، بل من وجود محبَّةٍ وعلاقةٍ خاصّة بين المتحالفين، وها هنا الأوس وبني قريظة، ثمَّ وفي ظَرْفٍ يصدِرُ الحليف حكم الموت على حليفه: "حكمي فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء"، وهذا الحكم ليس موجبه الخلاف القبلي ودليل ذلك أن الأوس جعلوا يطوفون به يرجونه بأن يُعتقهم ويطلق سراحهم، فما هي هذه الموجِبات التي جَعلته ينطق هذا الحكم الرائع العادل؟. قلنا إنّ هذه الموجبات منشؤها الجهاد، وحركة الجهاد ومسيرة الجهاد. فالجهاد بصفته مبدأً وعقيدةً أنشأ في نفس المسلم الصّحابيّ بغضاً للكفر وأهله، إذ أنّ المرءَ لا يندفع بقوّة كافية للقَتل والقِتال إلاّ بعد أن تمتلئ نفسه بالبغض والكره لخصمه، وقد بغّض القرآن الكريم الكفر والكافرين لأتباعه ورجاله، ودفعهم بكلِّ ترغيبٍ إلى مصادَرَة حياة الخصوم.. {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم}.. {قاتلوهم يعذِّبهمُ الله بأيديكم}.. {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}.. {واقعدوا لهم كل مرصد}، ولولا مبدأ الجهاد وعقيدة الجهاد لا يُمكن أن تصل النّفس المسلمةُ إلى درجة البراءة المطلوبة ضدّ المشركين، فمبدأ البراء من المشركين يعبَّأُ ثمَّ ينفَّذ من خلال الجهاد في سبيل الله.. ثمّ بسبب الجهاد اكتشف الرجل النّقِيُّ الطَّاهر الوفيّ خبث الشَّريك والحَليف، وأنه لا يستحقُّ حِلفه لأنّه خائنٌ، وما كان للنَّفسِ اليهودية أن تَظهَرَ على حقيقتها إلا بهذا الظَّرف المُلتهب وهو غزوة الأحزاب، إذ أنّ الفتنة تكشف الصادق في كلماته، والكاذبَ في دعواه، فكان الجهادُ في غزوةِ الأحزاب كاشفاً للحقائقِ النَّفْسيةِ لهذا الحليف الخبيث، وكم هي مؤلمةٌ أن يكتشفَ الطَّاهر الصَّادِقُ كَذِب وتزييف المدَّعي!! إنَّها لمؤلمة حقاً أن يكتشف سعدٌ بن معاذ أنّ حلفاءَه كذَبةٌ فَجَرة ينقُضُون العهودَ والمواثيق بلا حساب أو وَخْزةِ ضمير، وعلى هذا فسيكون عقاب هذا الرجل شديداً على من خَدَعَهُ. وهكذا كان حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه. إنّ الجهاد بصفته مبدأً وعقيدةً أنشأ عقيدةَ البراءِ من المشركين، وبالتالي دفع الصحابة لقتل أعداء الله، وإنَّ الجهاد بصفته حركةً وسلوكاً كشَف للصحابة مِقدار خبثِ العدوّ، وبالتّالي ذهَبَتْ كلّ أعذار المعوِّقين بأن هناك مجالاً طيّباً في نفوس أعداء الله يمكن أن تستغل في الدّعوة إلى الله. ولقد رأيت لبعض المعتوهين ممّن ينتسبون للفكر الإسلامي!! معالجةً غريبة لحكم سعد رضي الله عنه، حيث ذهب هذا المعتوه إلى القول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم على اليهود هذا الحكم لأنّه يناقض مبدأ الـرّحمة والإحسان الذي بُعث به، ولذلك ترك الحكم لسعد بن معاذ، ليكون حُكْماً لسعد لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم"!!، ولكن أين ذهب هـذا المعتوه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكم سعد: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبعة أرقعة)). مات سعد.. فما الذي حدث عند موته؟ وماذا حدث في جنازته؟. عندما مات اهتزّ له عرشُ الرحمن حزناً عليه أن لا تصعد إليه الأعمال الصالحة من سعد.. واهتز له فرحاً بقدوم الروح واستقرارها معلقة بالقناديل الخضراء المعلقة فيه.. أما في جنازته فقد مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤوس أصابعه لكثرة ما كان من الملائكة في المشيّعين!. فهكذا رجال الجهاد يحيون، وهكذا يموتون.. وإن شاء الله فللحديث بقية.. |
منبر التوحيد
والجهاد www.tawhed.ws |