منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "61"
   بين منهجين "61"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

عرض القرآن الكريم لنا نموذجا رائعاً لاستخلاص الشَّهد من بين ركام الاختلاط، وكان هذا العرض والتصوير مثلا حيّاً وحقيقياً في تعليم الأمّة كيف يخلص هذا الخلوص، وكيف تتميز الصّفوف، وكيف تعرف مقاديرُ الرّجال، وهذا الحدَث التاريخيّ كما عرضه القرآن العظيم فيه الردّ الجليّ الواضحُ على الطّرق المُبتدعة في إعداد الكوادِر، أو صنعِ الكفاءات، إذ أنّ الكثير من أصحاب الأفكار الهجينة المعاصرة يطرحون طريقة بدعيّة أو طرقا بدعيّة في الأمة، وهم في دعواتهم هذه التي سيتبيّن لنا أمرها وحقيقتها إنما هم يفرغون الشباب المسلم من الطاقات الإبداعية الحقيقيّة.

يحاول أصحاب التربية المزعومة أن يوجدوا الأدلّة على طريقتهم في صنع الأمّة، ورجال الأمّة، وتراهم يصرخون في كل وادٍ أنّ الأمّة والشّباب المسلم بحاجة إلى تربيةٍ وإعدادٍ قبل أن يوضع في معترك البلاء والامتحان، ولعلّ أبرز أدلّة هذا التيار البدعي هو احتجاجهم بحادِث طالوت عليه السلام، وها نحن نعرض هذا الحادث كما صوره القرآن ليتبيّن بجلاء أبلج أن هذا الحدث ضدّهم لا لهم، وهو في الحقيقة عُمْدةٌ من عُمد حركات الجهاد، ودليلٌ من أدلّتها أنّ حركة الجهاد هي التي تربي الأمّة وتُبرز القيادات، وتعرّفنا بمقادير الرجال.

في سورة البقرة حديث مطوّل متفرّق عن بني إسرائيل، وكان من كلام الله تعالى في هذه السّورة عن بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام [البقرة من آية 246-252]: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} وفي الآية كما نرى أنّ الذين طلبوا الملك هم «الملأ»، والملأ في القرآن وصف لا ترتاح له النّفس، فبمجرّد ذِكر الملأ وإطلاق هذه الصِّفة على قوم تتوجّس خيفة، وترتقب أوصاف شؤم وقبح (راجع كلمة الملأ في القرآن الكريم)، وليس من عادة الملأ أن يطلبوا خيراً، وإن طلبوه فهو لأمر خبّئ في أنفسهم، وأنا هنا لا أدري لماذا فرّق الملأُ بين النبيّ والملكِ المقاتل، وسنّة الله جاريةٌ في الأنبياء سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم أنّ النّبيّ في أتباعه هو الحاكم والقائد والقاضي، وكان هذا الأمر في بني إسرائيل أوضحَ وأجْلى، والحديثُ النّبويّ يشهد لذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء)) فهل هذا الطّلب المشروط في الملأ هو مقدّمة لنعرف أنّ الذين طلبوه هم «ملأ»، لا يخرجون عن هذا الوصف وإن تزيّنوا بغيره، هذا أمرٌ يحتاج إلى بحثٍ ونظر وإن كان هذا هو الذي تطمئنُّ إليه النّفس في هذا الوقت، بل إنّ هذه السّرعة في كشف حقيقتهم في ختام الآية تنبِّؤك عن هذا الذي قلناه، قال الله تعالى: {فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلاّ قليلاً منهم والله عليم بالظّالمين}.

ثمّ جاءت الآيات تكشف لنا هذا الإجمال وكيف تمّ فرض القتال وكيف سار الحدَث واستقرّ على حاله.

{وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً * قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}.

هذا الكلام الربّانيّ يؤكّد لنا أنّ الابتلاء كان للملأ، الملأ الممتلئ مالاً.. الملأ طلبوا ملكاً. ولمّا كان الله عليماً بالظّالمين، فهو قد علم سبحانه أنّ هؤلاء القوم يطلبون ملكاً فقط، لا ملكاً مقاتلاً، وعُمْدة الحقِّ لديهم في إقرار الملك وقبوله هو أن يكون ممّن له سعة من المال ولو حاولنا تصوّر النّفسيّة الحقيقيّة للملأ، ومحاولاتهم الزّائفة والذّكية في ستر مبرّر القتال لاتّضح لنا الشيء الكثير، فهم طلبوا أوّلاً: {ملكاً نقاتل في سبيل الله}، ولمّا حاججهم النبي وذكّرهم بعورات نفوسهم.. {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا} فكان جوابهم على قوله هذا مؤكداً لما قال: وهو أنّ ما علمْت من أنفسنا حبّه والشّغف به هو سبب طلبنا للقتال {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرِجنا من ديارنا وأبناءنا}.

إنّه حديث الملأ، وهو حديث لكشف الملأ، وهذه المقدّمة تدلّك على ما سيأتي وراءها من أحداث تكشِف الملأ على حقيقتهم.

{فلما فصل طالوت بالجنود} هذه الآية تحمل في طيّاتها معنى تخلُّف الملأ، وفيها إشارة إلى أن الملأ قد سقط في أيديهم فمنهم من لحق بالركب فسار جندياً، ومنهم من تخلف ليبقى تحت وصف الملأ، فحيث ذهبَت حقيقتهم عن الموقع -الفصل - ذهب وصفهم، فمن فُصِل به فخرج معهم سار تحت وصف جديد هو «الجنود»..

فصل طالوت {بالجنود}، وطالوت عيِّن مَلِكاً بقرارٍ لا دخل للجنود ولا للملأ فيه، بل ببعثٍ إلهي {إنَّ الله قد بعثَ لكم طالوت ملكاً} مبرّر البعث {بسطَةً في العلمِ والجسم}، القوّة والأمانة. جاء امتحانٌ تشريعيٌّ لا دخل للبشر فيه وهو قول طالوت : {إن الله مبتليكم بنهرٍ فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلاّ من اغترف غرفةً بيده} فهذا أمرٌ تشريعي من وضعٍ إلهي، وليس هو استحسانٌ بشريّ لشروط يضعها أصحاب التّصفية المزعومة، والتربية المدّعاة، فكيف يجوز للناس أن يشترطوا شروطا للجهاد ما أنزل بها من سلطان؟ وما هي الأدلة على هذه الشُّروط البدعية؟ فهذا شيخٌ يريد من الأمّة أن لا تجاهد حتى يصبح قيام الليل ديْدنها بلا تخلّف أحد منها، وهذا شيخٌ لا يُجيز الجهاد للأمّة حتى تحفظ الأربعين النوويّة، وهذا شيخٌ يشترط للجهاد أن تصبح الأمّة منظِّرةً في السياسة وفهم الألاعيب الدولية، وهذا شيخٌ يوجب على الأمّة قبل الجهاد أن تنبذ المذهبيَّة وإلا سيكون جهادها في سبيل المذاهب الأربعة وهذا.. وهذا..، شروطٌ ما أنزل الله بها من سلطان، ثم ههنا نقطة يدور البحث عليها، وهي: هل طالوت عليه السّلام اشترط شروطاً قبل إعلان الجهاد؟ أم أنّ شروطه على جنوده كانت بعد الفصل بالجنود؟ وهذه نقطة مهمّة لأنّ الحدث يدلّنا على أنّ ابتلاء القائد لمعرفة حقيقة جنوده واختبارهم في قدراتهم، وفي مدى تحمّلهم للصّعاب والأثقال كانت في مسيرة الجهاد، ومن خلال حركته مع جنوده، لا كما يريد مشايخنا في هذا الزّمان، وهو أن يمتحنهم وهم على فُرشِهم الوثيرة، فشتّان بين خلوصٍ ونقاءٍ حقيقيّ يخرج من وسط الملمّات والمحن، وبين خلوصٍ مزيّفٍ يخرج من امتحانات الولاء للقيادة، وابتلاءات تسليم الرّأس كالببّغاء دون وعيٍ وإدراك فتصبغ عليه القيادة لباس القُرب والنّجاح.

إنّ معرفة طالوت لحقيقة جنوده كانت من خلال مسيرته وحركته للجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الذي نقوله وندعوا النّاس إليه بفضل الله تعالى ورحمته، ونحمدُ الله تعالى أن عافانا من أمراض الآخرين وتصوّراتهم العليلة.

ثمّ خلص من خلص إلى المواجهة ضدّ جالوت وجنوده بعد محنة النّهر والشُّرب منه، ثمّ محنة الكثرة والقوّة الماديّة، ولم يذكر لنا القرآن الكريم أنّ محنة الكثرة العدديّة أسقَطَت بعض القوم، بل إنّ الوصف المدْحيّ لهم كان قبل ابتلائهم برؤية كثرة عدوِّهم، حيث قال الله تعالى بعد حادثة النّهر: {فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه}، فوَصْف الإيمان ههنا وصفٌ مدحيّ، لكنّ الإيمان مراتب متفاوتة وليس على درجة واحدة.

قال تعالى: {فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت وآتاه الله المُـلك والحِكـمة وعلّمه ممّا يشاء}.

حصل المقدور الإلهيّ بنصر المؤمنين ووقع الوعد الإلهيّ {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصّابرين}، ومن حدَث المعركة، ومن وسط ملمّاتها، ومن حركة الجهاد عرف النّاس داودَ عليه السّلام، ونحن المسلمون نعتقد أنّ النّبوّة اختيار واصطفاء، وقد عاب السّلف رحمهم الله على الإمام ابن حبان البستي صاحب الصّحيح، حين قال: "إنّما النّبوّة العلم والعمل"، حيث لحظوا فيها إلغاء الاختيار والاصطفاء الإلهي، ولكنّنا نجزم أنّ الإمام ابن حبان لم يرد هذا، وأنا أقدّم هذا حتّى لا يخرجَ علينا زاعمٌ بأنّ معنى ما نقول هو إلغاء الاختيار، ولكنّا عرفنا من خلال الآيات أنّ داود عليه السّلام برز بعد {وقتل داود جالوت}. فجمع الله تعالى لداود ما تفرّق قبل الحدث بين النّبوّة والملك {وآتاه الله الملك والحكمة}. نعم! عندما قتل الجنديّ داود الكافرَ جالوت كانت مقدّمة الاختيار.

{قتل} فاجتباه الله تعالى، فهل عقل مشايخنا هذا: قتل، قتل، قتل...؟ فليت مشايخنا يعيدون لنا تفسير وتجليَة كلمة «قتل». قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النّار)) رواه مسلم.

ومن أجل أن تفهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم كلمة «قتل»، وأنّها منهجٌ ربّانيّ سليمٌ سديد، أتبَع الله سبحانه وتعالى الحدث كلماتٍ عظيمة جليلة شريفة {ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض} فلو لم يقتل داود جالوت لبقيَ جالوت وجنوده يصولون ويجولون، ويُهلكون حرث النّاس ونسلهم، ولكن لمّا منّ الله تعالى على الأمة بتعليمها قتل الطواغيت، كان عليهم أن يشكروه، لأنّه سبحانه وتعالى ذو فضل على العالمين، كما قال سبحانه في خاتمة الآية: {ولولا دفع الله النّاسَ بعضهم ببعضٍ لفسدتِ الأرضُ ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين}. نعم، ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين، فمنهم من يشكرُ فضله ويرضاه، ومنهم من يرفضهُ ويأباه، ويذهبُ يتخبّط في الظّلمات باحثاً عن كلمة أخرى غير قوله {فهزموهم}.. {وقتل..}.

{تلك آيات اللهِ نتلوها عليك بالحق وإنّك لمن المرسلين}.

هذه القصّة التاريخيّة ومن حديث القرآنِ الشَّيق عنها كشفت لنا أن الجهاد هو بداية الأمر وهو نهايته، وهو منهج الله تعالى في ابتلاء الناس، لتكتَشِف الأمة حقيقتها.

وفي النهاية نخلص إلى النتائج التالية:

1) الملأ يناورون، والجهاد يكشفُ حقيقتهم، وليس بغير الجهاد تُكشف حقيقة الملأ، الملأ الممتلئ فلسفةً ومناورة، والملأ الممتلئ تبجُّحا وتيها.

2) طالوت يعرف حقيقةَ جنودِهِ خلال مسيرته وحركته للجهاد في سبيل الله تعالى، وليس بعيداً عن أرض المعركة والحركة ونحوها.

3) الإيمان لا يتنافى مع بعض ما يعتري النفس من خوفٍ ووجل، وليس هذا الخوف والوجل مبرراً لترك إعلان الجهاد في سبيل الله تعالى.

4) قيادة داود عليه السلام برزت من وسط المعركة، ومن خلالها، وبعد برهان حقيقي أنه من عنده القدرة على إصابة الرأس -جالوت- فهو يستحق أن يكون الرأس.

5) إنَّ العلم الشرعي شرْطٌ من شروط القيادة الجهاديّة، لأن الجهاد حركةٌ مضبوطة بضوابط الشّرع وأوامر الإله جل في علاه.

6) إنّ شعيرة الجهاد هي فضل إلهي، ومنّة ربانية، ويجب علي الأمة أن تقبل فضل الله ومنّته، ومن أعرض عنها فهو الخاسر المغبون.

والحمد لله رب العالمين
وللحديث إن شاء الله بقية..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws