منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "62"
   بين منهجين "62"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

إنّ من أشدّ القضايا معاناة لدى الحركة الإسلاميّة هي عدم وجود القائد المناسب، والرمز الصّحيح للتيّار والحركة، وعلى الرّغم من وجود المدّة الزّمنيّة المناسبة لإفرازه إلا أن الخطوات ما زالت متعثّرة وفاشلة، ونحن نرى الشّباب المسلم من أشدّ النّاس احتراماً لمسئوليْه وقيادته مازال بعيداً عن القيادة، غير مختلط بها، حتّى إذا عايشها وخالطها اهتزّت لديه الثّقة، وسقط الاحترام، وبدأت صيحاته تتعالى في بيان أخطاء مشايخه وقيادته، وهذا يؤكّد أنّ إفراز القيادة بالطّرق التي اتّبعَتها هذه الحركات هي طرقٌ فاسدة ومخطئة، ومن أجل الحفاظ على صورة الشّيخ المحترم، والقائد المقبول يحاول بعضهم إحياء الطّريقة الصّوفيّة في التّعامل مع الشّيوخ، لكنّها تكون مغلفة بغلاف العمليّة أو السّلفيّة، أو التّبريرات الإداريّة التي اشتقّت من نظم جاهليّة لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، فالمحاولات المتكرّرة في إضفاء صفةِ القداسة على القيادة لم تعد تدوم طويلاً أمام اختبارات القرب والتّعامل بين القواعد والقادة، ومن صمد منهم أمام هذه الضّغوط القسريّة من القادة، بغضّ الطرف عن النّظر إلى أنوار الشّيوخ والقادة فإنّه سيخرج صورة شوهاء من رجلٍ باع عقله وإرادته لمثل هؤلاء القوم، وحينئذٍ فإنّ الحركة تصبح مجموعةً من الأبواق التي تسير وراء ناعقٍ واحدٍ فقط، هذه الصّورة هي أقرب ما نرى في الواقع في تركيبة الجماعات الإسلاميّة.

المشكلة الواضحة هي كيف توفَّق الجماعة المسلَّحة المهتدية في إيجاد الاحترام بين أفرادها على العموم وبين قواعدها والقيادة على الخصوص، وبين وجود المدى الأقصى من القدرة على احترام العقل الذّاتي والإرادة المستقلّة؟ وقد يظهر لبعض قاصري النّظر استحالة وجود هذه التّركيبة، واعتقادُ الاستحالةِ مردّه إلى عدم فهم أحد طرفي المعادلة، فقد يُدخِل البعض صوراً أو ممارساتٍ خاطئة إلى مفهوم الاحترام والتّقدير، وبالتّالي يجعل من أضداد الاحترام هو عدم وجود هذه الممارسات والسّلوكيّات.

عندما يناقش التّلميذ شيخه في مسألةٍ من المسائل، ويراجِعه فيها إلى أقصى درجات المراجعة بل المناظرة، فهل هذا الفعل يضادّ الاحترام والتّقدير؟.

هل مراجعةُ بلال رضي الله عنه المتكرّرة والصّلبة لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه في مسألةِ الاختلاف حول الأرض المفتوحةِ، هل يُعمل فيها بالخراج كما هو رأي عمر، أم تُقسّم على الفاتحين كما جرت السنّة وأصرّ على تطبيقها بلال، هل هذه المراجعة فيها ما ينبئ عن فقدان درجة (أيّ درجة) من درجات الاحترام بين شخص القائد وأتباعه؟.

هل استنكار سعد بن معاذ رضي الله عنه لمّا فهم من وجوب إحضار أربعة شهود حال رؤيته لزنى الزّوجة، وحلفه الأيمان المغلّظة أنّه لو رأى ذلك ليضربنّ ما بين رجليها هو ممّا لا يدخل تحت باب احترام الرعيّة للقيادة؟.

ثمّ تعالوا أيّها القادة لنحاسبَكم، وأنتم ملأتم الدّنيا صياحاً بوجوب محاكمةِ ومحاسبةِ المتسبّبين بمصائب الأمّة وهزائمها؟.

تعالوا أيّها القادة لنحاسبكم عن أحداثِ حماة، ومن هو المتسبّب بهذا الكمّ من المصائبِ والبلايا؟ ألم تدعوا الليالي الطّوال أن يخلّصكم الله تعالى من عدنان عقلة، لأنّه بدأ يسير في الآفاق داعياً إلى كشف المجرمين والمنافقين والوصوليين والنّفعيين والجبَناء وقادة الفنادق، وسماسرة المال وقطّاع الطريقِ إلى الله؟.

لماذا احمرّت أنوفكم - غضباً ظالماً - ضدّ كتاب «التّجربة السّوريّة» لمؤلّفه عمر عبد الحكيم مع أنّه لم يُظهر من الحقائق إلاّ بمقدار رأس الإبرة، وإلاّ فالحقائق ينبغي أن تؤدّي بكم إلى المشانق لو كان هناك قاعدة تَفهَم دين الله تعالى، وتتعامل مع الأمورِ بشرعيّةٍ وموضوعيّة.

ثمَّ لماذا لا يفتح ملفُّ حزب النّهضة بقيادة راشد الغنّوشي بطريقة علنيّةٍ ليعرِفَ النّاس حقيقة ما جرى في تونس فتوضع النُّقاط فوق الحروف، فيعرف القائد المزيّف من القائد اللعوب، لماذا تلصق هذه الصّور الزّائفة ضمن لوحة الإسلام العظيم، بل لماذا كتب علينا أن لا نرى إلاّ قائداً ورمزاً مزيّفاً عاجزاً عن قيادة دجاجة لا قيادة أمّة؟.

إنَّ الاحترام والتقدير للقيادة الواعية هو أمرٌ تفرضه القيادةُ بنفسها، وذلك من خلال مسيرتها المظفَّرة نحو أهداف الجماعة وانتصاراتها.

الإمام أحمد ابن حنبل - رحمه الله تعالى - لم يخطب الخطب الرنّانة، ولا أصدر البيانات المطوَّلة طالباً من النّاس احترامه وتقديره، بل موقفه وصلابته في الحق، وتفانيهِ في سبيل السنّة ودين الله تعالى هو الذي جعله للناس إماماً وفرض اسمه على أهل السنّة والجماعة.

شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بفعاله وجهاده جعل خصومه قبل تلاميذه ومحبِّيه يُقِرُّون له بالفضل والرِّفعة، لأنّهم رأوا رجل المواقف، لا أبواق كلامٍ وصراخ.

الأمَّة والقاعدة والأتباع يحترمون علماءهم وقادَتهم عندما تفرضُ القيادةُ نفسها بمواقفها وفعالها وصورتها النزيهة.

إنّي أعلم أقواماً (من الشباب المتحمس) كان يرجو نظرة من بعض الأسماء الرنّانة من القادة المفكرين، وكان يعتبر مجرَّد الجلوسِ في محاضرةٍ لهذا الشيخ أو القائد أو المفكّر هي من أشدِّ القُربات إلى الله تعالى، ولكنّه بعد تجربةٍ مُرّةٍ كشفت هذا الغثاء على حقيقته صار يعتقد أنَّ قتل هؤلاء القادةِ هو من أفضَلِ القُربات إلى الله تعالى.

لماذا هذا؟.

السبب واضحٌ جليّ، لأن الواقع كشف أن هؤلاء القادة هم تُجّار كلامٍ، وأبواقُ صراخ، حتى إذا جاء دَوْر النّزال والتّجربة تعرّت حقائقهم، وكُشِف أمرهم. وها أنا سأحكي لكم تجربةً عاشها الشّباب الفلسطيني مع قيادات الجماعات الإسلاميةِ في فلسطين والأردن يعرفها أصحابها حقَّ المعرفة، ولا يجادلُ فيها إلا لعوب‎..

لقد علِم القاصي والدّاني أن الحركات الثّورية الفلسطينية هي فقط حركاتٌ علمانية أو شيوعية أو بعثية أو قومية ولن يجد الدّارس فيها حركة إسلامية واحدة (هذا بعد 67 وقبل ظهور حركة حماس)، فهناك فتح العلمانيّة (أكبر تجمع فلسطيني)، وهناك الجبهة الشعبيّة بقائدها جورج حبش (قومي يساري)، وهناك تنظيم أحمد جبريل، وتنظيم نايف حواتمه، وهناك وهناك، ولا يوجد تنظيمٌ واحدٌ يرفع راية الإسلام.

والسّبب في ذلك: أنّ التنظيمات الإسلاميّة في فلسطين كان عمدتها جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، فأمّا حزب التحرير فهو حزب معوّق فكراً وسلوكاً، يعيش حالةٍ من جنون العَظَمَة، وذلك لاهتمامه بإيجاد التّعريفات الصّائبة لمفهوم السّياسة والمجتمع، والصّراع الفكريّ، والكفاح السّياسي، ودعوته المظفّرة لإيجاد التفكير المستنير، فهو حزبٌ أراد من أفراده -كما يقول مؤسّسه - أن يصنع قادةً سياسيين، يخوضون بالأمّة في غمرات الكفاح والنّضال السّياسي، فكان جُلُّ اهتمامه أن يكشف لنا أنّ الملك حسين هو عميل إنجليزي، وكذا المنظّمات الفلسطينية، وجلّ صراعاته أن يثبت للنّاس أنّ جمال عبد النّاصر عميل أمريكيّ وليس هو اشتراكيّ أو شيوعيّ، وإذا أراد أن ينشر شيئاً من الإسلام، فهو يقيم الدّنيا ولا يقعدها حول حديث الآحاد هل يُحتَجّ به في العقائد أم لا؟!! وهل الأمر يفيد الوجوب أم الاستحباب؟، هذا كان جلّ صراع حزب التّحرير، وبقي حزب التّحرير سرّاً حتّى في مفهوم ومدلول اسمه: حزب التّحرير، تحرير من ماذا؟ لم يكشف لنا الحزب سرَّ هذا الاسم المختار.

وبطرحه هذا لم يرى الفلسطينيّون والشّباب التوّاق إلى القيادة في حزب التّحرير سوى مهذار (حكي) لا يقدّم ولا يؤخّر، بل إنّه كان لا يجيز أن يتبنّى أعمالاً مادّية مثل العمليّات الجهاديّة، لأنّ الحزب كان وسيبقى مقتصراً على الأعمال الفكريّة.

الإخوان المسلمون وبعد أن قدّموا صورةً جيّدة لعمليّاتٍ قتاليّة في حرب الـ 48 وما بعدها، وإن كان يشوبها الكثير من الجهل بالأحكام الشّرعيّة، سواء في فهمهم للحكم الشّرعيّ لحكّامهم وكذا لواقعهم، إلا أنّهم بصورة مفاجئة انكفؤوا على أنفسهم، وأعلنوا أنّ هذه الفترة (الـ67 وما بعدها) هي مرحلة تربيةٍ وإعدادٍ للأمّة، فتقوقعوا على أنفسهم، ولم يخرجوا إلاّ عندما حاولت حكومة النّابلسي اليساريّة أن تقوم بعمليّةِ انقلاب على الملك حسين، فما كان منهم إلاّ أن أجهضوا هذه المحاولة، ومازال الملك حسين يحفظ لهم هذا الصّنيع وكذا ما فتئ المراقب العام السّابق للإخوان المسلمين في الأردن محمّد عبد الرّحمن خليفة يستشهد بالحدث أنّ الإخوان المسلمين هم من أركان تثبيت الحكم الهاشميّ المرتدّ في الأردن، وكذا ما زال الشيوعيّون يستشهدون بهذا الحدث أن الإخوان المسلمين هم عملاء للنّظام الأردنيّ، وعلى كلٍّ فليس هذا من بحثنا، ولكن من بحثنا أنّ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وفلسطين تركت السّاحة القتاليّة للأحزاب الشّيوعيّة والعلمانيّة والبعثيّة والقوميّة وذهبت تمارس التّربية على أفرادها، والذين لم يبلغوا الفطام وإلى اليوم، بعض الشّباب المتحمّس من الإخوان المسلمين رفضوا هذا الواقع الذّليل، وأبوا إلاّ المشاركة في قتال اليهود، ولمّا كثُر ضغطُ هؤلاء الشّباب على القيادة استجابت لهم القيادة بأن سمحت لهم أن يوجدوا لأنفسهم قواعد عسكريّة سمّيت بقواعد الشّيوخ، وكانت هذه القواعد مرتبطةً إداريّاً ببعض التّنظيمات الكافرة، وهذه طريقة تمارسها قيادة الإخوان المسلمين دائماً في وقت وجود الضغط من القواعد وذلك بأن تفتح لهم مجالاً لتنفيس الضّغط، وإخراجه من مستودعه، مثل استيعابها لضغط الشّباب المتحمّس للالتحاق بالجهاد الأفغانيّ، فقد كان هناك قرارٌ قياديّ من الإخوان المسلمين في الأردن بعدم الإذن لأيّ إخوانيّ بالذّهاب إلى أفغانستان، ولكن لمّا كثر المروق في صفوف الشّباب، فإنّ القيادة سارعت إلى احتواء هذا المروق بإيجاد قواعد خاصّة بهم، وهذا أمرٌ يعرفه القاصي والدّاني، ومحاولة إخفائه أو مناقشته هو من قبيل ستر الشّمس بالغربال، نعود إلى الواقع الفلسطينيّ: وأنا هنا أسأل عامّة المسلمين أن لا يأخذوا من كلامنا نحن الخصوم، ولكن ليسألوا بقايا هؤلاء المشتركين بقواعد الشّيوخ عدد مرّات زيارة قيادة الإخوان لهم في القواعد، إنّ أحدهم ليحلف الأيمان المغلّظة أنّ عدد زيارات القيادة الإخوانيّة لقواعد الشّيوخ لم تزد عن عشرة مرّات طوال مدّة وجودهم في القواعد، وكانت هذه الزّيارات أو أغلبها تتمّ بصِفة رسميّة (هندام السّهرة أو المقابلات الرّسميّة بحذاء يلمع ببريق المشي على سجّاد راقٍ).

هذه الفعال، وهذه التخلية هي التي جعلت الشباب الفلسطيني يصبح في أغلبه يساريا أو قوميا أو علمانيا، نعم، كانت التنظيمات الفدائية الكافرة المرتدّة تجلب الشباب الفلسطيني تحت راية الجهاد وقتال اليهود، وتحرير فلسطين، فيتدافع إليها الشباب زرافات وأفواجاً، ثم بعد مدة تقوم خلالها هذه التنظيمات ببث الفكر الذي تريد، فيجد الشّباب نفسه عدوًّا للإسلام وأهله، وما حصل هذا إلاّ لأنّ هذه الجماعات الإسلامية أخلت الساحةَ لهؤلاء الكفرة المرتدِّين.

نعم كان الإخوان المسلمون في مصر في السجون، لكنهم كانوا في العراء في الأردن وفلسطين وسوريا، ولم يكونوا في السجون.

تجربة أخرى: هي تجربة الجماعات الإسلامية في لبنان، وهي تجربة مليئة بالعبر والعظات، وكلّها تدل على أن الأمَّة المسلمة معوّقة في داخلها، وإنّ من أعظم معوِّقاتها هم قادتها ورؤساءها.

كان الشيعة في لبنان من أخسِّ الخلق، محكومون بعدّة أسلاكٍ وحظائر، كالفقر والأميَّة وانتشار الفكر اليساري، وخضوعهم للإقطاع، وهاهم الآن لهم الدور الرئيسي في لبنان، تنظيمهم السابق أمل وكذا اللاحق حزب الشيطان، يفرض نفسه على الساحة بكل قوّةٍ واهتمام، أمّا أهل السنَّة فيكفي أن تعلم أن قيادتهم كانت موزَّعة بين الإخوان المسلمين (الجماعة الإسلامية) بقيادة فتحي يكن وأمثاله، وبين الشيخ شعبان لتعلم وتتيقّن أنّ حال أهل السنة مما يُضحك الثّكلى، ويشيب له الرّأس، وإن لم تصدِّقني فما عليك إلا أن تستمع إلى تصريحات (العاهة) الشيخ شعبان، وتقرأ مجلة الأمان التي يصدرها الإخوان المسلمون في لبنان، فترى الأراجوزات الفكرية كيف تمارس الفن بكل عملقة كرتونية.

إنّ وجود القيادة الواعية، والتي تخرُج من رحم الأحداث، وفتن المعضلات هي التي تقود الأمّة نحوَ أهدافِ الإسلام العظيم.

واعلم أن من شرط هذه القيادة أن تخرج جامعة بين عنف الجهاد وسطوته، وحكمة التجارب والملمَّات.

وللحديث بقية إن شاء الله..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws