منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "63"
   بين منهجين "63"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

وإذا كان الجهاد يعرّ فنا بالرّجال، إذ هو من أدقّ الموازين في هذا الباب، فإنّه كذلك هو الفرقان الذي يقسّم النّاس إلى أقسامها الحقيقيّة، فبه تتميّز الصّفوف، فيتبيّن فسطاط الإيمان، كما يتبيّن فسطاط الكفر والنّفاق، فيؤوب النّاس إلى منازلهم التي يرتضونها لأنفسهم، ومعلوم أنّ الفتن والابتلاءات تكشف النّاس، وتخرج مخبوء نجواهم، إذ صدق من قال: "إنّ الحرب حصاد المنافقين"، وبها كذلك يتّخذ الله الشّهداء، والشّهادة باب جليلٌ لا يفتحه الله تعالى إلاّ لأوليائه المقرّبين.

من قرأ السّيرة النّبويّة قراءة متفحّصة، يرى فيها هذا الذي قلناه، إذ أنّه ما من معركةٍ خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وأظهرت رجالاً في مرتبة الولاية والقرب، كما وأظهرت رجالاً في مقام النّفاق والخِزي، فالجهاد هو الذي يكشف حقائق المخادعين والمتخاذلين، لأنّ بذل النّفوس هيّنة في سبيل هذا الدين لا يقوى عليه إلاّ المرتبط بهذا الدين ارتباطاً حقيقيّاً، ومن تمثّلت له الدّار الآخرة بين عينيه، يراقبها أنّى توجّه أو قال أو فعل، كما مدح الله تعالى الصّادقين من عباده بقوله: {إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدّار} وهي في سورة ص، ذلك بعد أن تكلّم الله تعالى عن داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصّلاة والسّلام، وذكر سبحانه وتعالى مِنَنه عليهم، جعل سبحانه وتعالى علّة هذه المِنَن، وسبب إغداقها هو أنّهم أخلصوا أنفسهم للآخرة، حبّاً وعملاً، قال مالك بن دينار: "نزعنا من قلوبهم حبّ الدّنيا وذكرها وأخلصناهم بحبّ الآخرة وذكرها"، إذ أنّ هذا الدّين لا يرفع الله به إلاّ من آمن به حقّ الإيمان، وصبر على ما يلقاه من الفتن والأهوال، ثمّ تيقّن على موعود الله تعالى وأنّه آت لا ريب فيه، كما قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}. قال ابن تيميّة - رحمه الله تعالى - تفسيراً لهذه الآية: "بالصّبر واليقين تنال الإمامة".

ففي غزوة الأحزاب حيث جمع النّاس حشودهم، وتكاتفوا يداً واحدةً على بلدة صغيرة هي طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجره، واضطربت النّفوس، وزُلزِلت، ورأى النّاس الموت بأمّ أعينهم [الآيات من 9-27 من سورة الأحزاب]. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} الأحزاب 9.

أمّا الجنود فهم الملائكة، ولم تقاتل الملائكة يومئذٍ، وإنّما عذّب الله الكافرين بالرّيح، ففي الصّحيحين عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور)). وأمّا تفاصيل حركة رياح الصّبا فقد روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: "قالت الجنوب (أي ريح الجنوب) للشّمال (أي ريح الشّمال) ليلة الأحزاب: انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الشّمال: إنّ الحرة لا تسري بالليل، وكانت الرّيح التي أرسلت عليهم الصّبا".

ثمّ فصّل الله تعالى أمر المعركة وما جرى فيها، فقال جلّ وتعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظّنونا} الأحزاب10.

إنّها الفتنة، إنّه الابتلاء والتّمحيص، حيث تظهر القلوب ما بها لشدّة الضّغط عليها، {زاغت الأبصار}: أي تحرّكت عن مكانها لشدّة الخوف والرّعب، و{بلغت القلوب الحناجر}: وكذا زالت القلوب عن مكانها لشدّة خفقانها واضطرابها، فالعيون تتحرّك بحركة القلوب، إذ العين لم تعد ترى بوضوح وجلاء، والقلب لم يعد يفكّر بسلامة وثبات، وهذا كلّه بسبب شدّة الخوف، وهو خوف لم يسلم منه أحد، فقد حدّث حذيفة بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشّأن شيئاً عجيباً، قال فتىً من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟. قال حذيفة: نعم يا ابن أخي. قال: كيف كنتم تصنعون؟. قال: والله لقد كنّا نجهد. أي نتعب بصحبته تعباً شديداً، وذلك أنّه صلى الله عليه وسلم كان صاحب همّة عالية، وعمل دءوب، ونفس لا تكلّ، وكان أصحابه رضي الله عنهم لمحبّتهم له يحاولون اللحاق به، والتّشبّه بفعاله، فكانت محاولاتهم هذه تصيبهم بالتّعب والجهد، وكذا القائد الحقيقيّ لا يرضى من رجاله الدّون، ولا يقبل في رعيّته إلاّ فعال الرّجال ووَثباتهم، وأمّا أولئك القوم الذين يصنعون من أتباعهم أبواقاً لهم، ومقلّدين لحضرتهم، فلن ينفعوهم شيئاً في يوم كريهةٍ وسدادِ ثغرٍ، ولقول حذيفة رضي الله عنه معنىً آخر، وهو أنّه كلّما وَضُح الحقّ وكان قويّاً جليّاً كلَّما كان الباطل كذلك جَلداً واضحاً جليّاً، ولم يكن الحقّ جليّاً واضحاً قويّاً في يوم من الأيّام كما كان في عهد محمّد صلى الله عليه وسلم، وكذا كان الكفر في عهده سافراً عن وجهه القبيح، فكان هذا يُلحق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهد والتّعب، فقال حذيفة: "يا ابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة))، فما قام منا رجل، ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل، ثمَّ التفت إلينا، فقال مثله، فسكت القوم، وما قام منّا رجل، ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: ((هل من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة))، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد".

{وتظنون بالله الظنونا}: فالمنافقون ظنّوا بربّهم شرّاً، وبالإسلام بهتاناً، إذ أنّهم قالوا: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}، يقولون: "يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله، هذا والله غرور"، وها هم اليوم يقولون: كيف لنا مع ضعفنا وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس أن نعيد دولة الإسلام؟ وكيف لنا ونحن لا نستطيع أن نعبد الله تعالى آمنين أن ينقلب حالنا إلى حالٍ تخشانا فيه قوى الكفر والشّرك في مشرق الأرض ومغاربها؟. لكنّنا نقول: إنّها الوعود الإلهية، إن أخطأَتْنا نحن فهي واقعة لا شك فيمن ثبت على الطريق، وواصل المسير، ولم تُضعفه الأيّام والشّهور، بل ازداد ثباتاً ويقيناً، وما شدة الصعوبات إلا دليلٌ على صواب الطريق، وإذا كان طريق الجهاد وهو طريق الدّم والخطفِ والسجن، فإنّه كذلك طريق العزّة والنّجاح، وإذا كانت الطّرُق الأخرى هي طرُق السّهولة والمناصب، فإن نهايتها هي الذلّة والخِزْيُ والشّنار. وطائفة منهم قالت: يا أهل يثرب لا مقام لكم على الإسلام فارجعوا، أو لا مقام لكم في القتال فهزيمَتكم محقّقة، فارجعوا إلى منازلكم، وبدأوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهروب وترك المواجهة يقولون: {إن بيوتنا عورة} أي مكشوفةُ الجانب، لا نستطيع منعَ الدّاخل إليها، فكذّبهم الله تعالى قائلا: {وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً}، وهكذا النّفوس المريضة، والقلوب الخاوية من الإيمان، تبحث لها عن الحجج الواهيةِ الضعيفة لترك المواجهة، ولعل هؤلاء يبحثون عن الحجج الأصولية في إسقاط فريضة الجهاد تحت دعوى المصلحة الموهومةِ الزائفة، ولكنّ حقيقةَ الحال هو أنهم لا يريدون الجهاد، ويخشون نتائجه، قال تعالى: {ولو دُخِلت عليهم من أقطارها ثمّ سُئِلوا الفِتْنة لأتَوها وما تلبّثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبلُ لا يولُّون الأدبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً}.

إن هؤلاء القوم لا يقيمون للفضائل شأناً ولا لدين الله رأساً، همّهم بطونهم، وشُغلهم أهواءهم، ودليل ذلك أنه لو دخَلت جيوشُ الأحزاب عليهم في المدينة، ثم طلبت منهم الجيوش أن يُشركوا بالله تعالى ما احتبسوا، ولا تلكّؤوا، بل لأقبلوا على الكفر بالله طيّبة بالشرك قلوبهم، فهم يدورون مع من مُلك المنصب والمال، ويراقبون حَركته، حتى يبرمجوا أنفسهم على اتّجاهه، ليس لهم اختيار إلاّ اختيارُ الحاكم، إن أسلم الحاكمُ أسلَمنا، وإن كفَر الحاكمُ كفَرْنا، ولا يُقبِلون على الإسلام إلا بالوعود الممتلئةِ ذهباً وكنوزاً، ومناصبَ وتشريفاتٍ، ولهذا قالوا قولتهم: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}، فهم اعتنقوا الإسلام لوعوده الدنيوية، أليس هذا يعلِّمنا أن لا نفرش الورود والرياحين للناس في دعوتهم للإسلام؟ ثم أليس هذا خطأ تلك الجماعات التي قالت للناس: انتخبونا، وسنطعمكم السَّمن والعسل، وسنبني لكم المساكن الفاخرة، وسنسهّل لكم معايشكم وحَيَاتكم، فلمّا أصابهم بعضُ اللأواء، فإذا هم أمام شاشاتِ التّلفزيون يتبرَّءون من الإسلام وأهله، ويتساقطون على الطّرِيق الواحد تلو الآخر، ألا ما أتعسَ العبد الذي يُريد أن يشتري بإسلامه منصباً وجاهاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد من حرص الرّجل على المال والشّرف لدينه)).

يا قوم! أين عهودكم؟ أين بيعتكم مع الله؟ ألم تقسموا من قبل أن لا تولّوا يوم الزحف، بل تثبتوا ثبات الصادقين؟.

ثمّ اعلموا أنّ الجهاد لا يقرِّب أجلاً، فلو كنتم في بيوتكم لبرز الموت إليكم، ففرارُكم لن ينفعَكم، ومتاعُ الدّنيا قليلٌ زائل، والذين يظنّون أنّه بالجهاد قد توحّش الخصم، أو ازدادت شروره، وكثْرةُ قتْله للموحّدين والضّعفاء هو جدّ واهم، لأنّه سواء حملتم السّلاح وقاتلتم على دينكم وأعراضكم، أو أنّكم تركتم السلاح وأعلنتم صباح مساء أنّكم ضدَّ العُنف والقتال، فلن يغيّر هذا من الحقيقة شيئاً، وهذه الحقيقة تتجدّد كلّ يوم، فها هي جماعة الإخوان المسلمين تساقُ هذه الأيام في مصر إلى السجون (اللهم لا شماتة)، وترمي بنفسها تحت أقدام الكفرةِ المرتدّين وترجو نظرةَ رِضى من قبل وزير الداخلية المصري أن يسمح لها بلقائه، لتشرح له حقيقتها، بل إنها لترجو منهم أن يسمح لوسيط بينهم أن يدخل عليه ويشرح له أنّ جماعة الإخوان جماعة سلميّة، لا تنتهج العنف، بل تتبرّأ منه صباح مساء، ونحن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنّنا والله لنشعر بالخِزي من هذا الموقف، فهل وصلت المهانة والذّلة بهذه الجماعة إلى هذا الدّرك الأسفل؟، إنّه لشتّان بين موقف جماعات التّوحيد والجهاد وجماعة الإخوان المسلمين!! الدّكتور أيمن الظّواهري مع ضعفه وعجزه، يلقي الكلمات كالحمم وكأنّها طلقاتُ مِدفع محمرّ الجَوانب نحو الرّئيس المرتدّ حسني مبارك وحكومته، وتَحمِل كلماته الأمَل أنّ فتح مصر لا بدّ منه، وأنّه قريب، مع أنّ الجميع يعلم إلى أيّ درجة هو ضعيف عاجز، لكنّها آيات الله ما زالت تتجلّى في هذا العصر: {ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً}، نحسبه كذلك ولا نزكّي على الله أحداً.

إنّ الرّجال مواقف، فانظر يا عبد الله أين موقفُك، وإنّ الإيمان ليستعلي بذاته حتّى لو كان حبيس السّجن، أو طريحَ الفراش، أو فقير الجَيب، أو مطاردَ الحال.

إنّه ليستعلي في السّجن بخلوته، ومع القتل بشهادته، ومع النّفي بسياحته، لأنّه الإيمان، وإنّ النّفاق لينخذل مع منصبه وشاراته وأمواله وحشمه، لأنّه النّفاق!! {قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلاّ قليلاً * أشحّة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ، أشحّة على الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط أعمالهم، وكان ذلك على الله يسيرا}.

أرأيت أخي: هم، هم، في البأساء والضّرّاء، معوَّقون ومعوِّقون، فإذا أتوا إلى مواطن النّزال أتوا قليلاً، من أجل الرّياء والسّمعة، حتى يرجع الواحد منهم إلى بلدته ويخطب آلاف الخطب، ويجمع آلاف الدّنانير، في الحرب ينصحون بترك المعركة، وفي السّرّاء إيذاء ورميٌ بسوءِ الأقوال من كلِّ جانب، عيونهم مفتّحةٌ، مجهريّة البصر في النّظر إلى الأخطاء والسّقطَات حتّى يسيروا فيها شرقاً وغرباً، لكنّها كلَّةٌ تعِبَة عن رؤية الخير وإبصاره، جيوبهم منتفخة، كريمة على نفسها وعيالها، يبني الواحدُ منهم كأنّه مخلّد، ويجمع المال باستكثار يظهر عليه، حتّى صار الواحدُ منهم يعَدّ من أثرياء بلده، وصارت أموالهم محطّ تندّرٍ من قبل الأعداء والخصوم، بنوكُهم تسجّل في بلاد الـ «واق واق»، تأتيهم هباتُ الملوك وشيكاتُ الهدايا بملايين الرّيالات، من أجل فتاوى رخيصة وخطب قبيحة.

لقد تكلّم الله بهذه الآيات والكلمات، وهي كأنّها صورة كونيّة للحدث، كلمات الله تنقلنا نقلات سريعة، وكذا حدث الأحزاب، اختلطت فيه صورة المشركين {جاءتكم جنود}..{جاءوكم من فوقكم}، وصورة مشاعر النّاس جميعاً بصورة خاطفة: {وتظنّون بالله الظّنونا}، ولم يتكلّم الله لنا عن مشاعر الكافرين شيئاً، بل يكفي أن يقول عنهم أنّهم جنود، جنود فقط، فلم يتكلّم شيئاً إلاّ عن حركتهم الظّاهرة: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}. ثمّ شرع القرآن في وصف المؤمنين، حيث انتظرنا وصفاً مُسهباً: {هنالك ابتُليَ المؤمنون وزُلزِلوا زِلزالاً شديداً}، لقطة سريعة، كلمات مفعمة بالبيان، وتحتاج إلى ما وراءها، ولكنّ سرعة المعركة تقتضي سرعة الوصف، وفجأة إلى المنافقين، تنتقل كلمات الله إلى المنافقين، وتتحدّث وتتحدّث، وكأنّهم في معزلٍ عن أرضِ المعركة، مشاعرهم خاصّة، وأقوالهم خاصّة، جسْمٌ غريب، يتوقّف عندهم حديث المعركة ليحكي لنا أصولهم السّابقة، ومعالمهم قبل الحدث، وكيف يعالجون الأحداث بتعليقاتهم وتحليلاتهم، ويفضح الحديث علّة حركاتهم وسكناتهم، وكأنّ المعركة ما جاءت إلاّ لهذا الأمر، وهو فضح المنافقين وكشْف عوراتهم.

ووسط ذلك كلّه، فجأة يلقي الرّب جلّ في علاه علينا هذا التقرير والإحكام قائلاً: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}21، وعلى الرّغم من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسوة المؤمنين في الأمور كلّها، وعلى الرّغم أنّ هذه الآية حجّة في وجوب اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنّ علينا أن نتوقّف أمام سِياقها، وسِباقها، فقد قرّر الله هذه الأسوة من خلال حديثه عن المعركة، وتفاعلات النّاس حولها، نعم أسوة لنا بلباسه، وأسوة لنا بصلاته، وأسوة لنا بمأكله، وأسوة لنا بشأنه كلّه، لكنّ الحديث عن الأسوة انطلق من وسط فتنة الأحزاب، وغبارِ المعارك، وصلابة القرارات، فأين المتحدّثون عن الأسوة بحبّه لبياض الثّياب، وكثرة التّطيّب، وذراع الذّبيحة، .. و .. و؟.

ليعلموا أنّ حديث القرآن عن القدوة والاتّساء كان من خلال حديثه عن غزوة الأحزاب؛

إنّه النّبيّ لا كذب * إنّه ابن عبد المطّلب
وللحديث بقيّة إن شاء الله تعالى..

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws