بين منهجين "69"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
قد يجاهد البدعيّ، وقد ينصر الله الدين بالرّجل الفاجر كما أخبرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فليس حَمْلُ السّلاح هو الفارق بين البدعي
والسُّني، ولكن الفارق هو المنهج، وبالتالي علينا أن نفهم آلية الفهم عند
الرّجل عندما حمل السلاح، وما هي دوافعه؟، وما هي مبرّراته عندما حمل السّلاح
مقاتلاً مجاهداً؟. فعلينا أن لا ندفن رؤوسنا في الجهل، ونعمى عن رؤية الحقيقة
عندما يأتينا رجلٌ أو تنظيم ويحرّضنا على حمل السلاح، بل علينا أن نتوثّق من
منهجه، ومن فهمه لحقيقة الجهاد، وفهمه لتوحيد الله، وللإيمان عند أهل الحقّ
والهدى.
ونحن الآن نعيش فوق قنطرةٍ، أمامها الكثير من المفاوز
والقفار، وخلفها الكثير من الفوائد والعبر، وبين يديها كتاب الله تعالى، وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف علينا أن نطرح أنفسنا؟، وإذا طرحنا أنفسنا
بصفتنا حركات جهاديّة سلفيّة، فما هي حقول وميادين عملنا؟ هل هي طوائف الردّة
الممتنعة من قتالنا لهم فقط؟ أم أنّنا أمام أكوام من التراث المختلط، وواجبنا
كذلك أن نحرّر إرادة الأمة من عوائق الشرك والجهل؟.
وعلى معنى آخر: هل
طرح جماعات الجهاد السلفيّة لمواضيعها على صيغة شمولية أم في جزئية من
الجزئيات؟.
الجواب ولا شك: إن الواجب علينا أن نعالج الدّين كله،
نجدّده، وأن نعيد بهجته وضياءه على صورته الأولى وهو جديد أوّل مرة، وهذا
يوجب علينا كذلك أن لا نغترّ بالجزئيات والفرعيّات، بل علينا أن نفهم آليّة
فهم هذه الجزئيّات، وما هي أصولها، وما هو المنهج المتّبع حتى وصلت هذه
الجزئيات والفرعيات.
إن موافقة بعض الطوائف لنا في مسألة من المسائل
لا يعني أبداً أن هذه الجماعة منّا، ونحن منها، وأنّ لها ما لنا، وعليها ما
علينا. بل إنّ الجماعة التي هي نحن، وهي منّا، ونحن منها إنما هو بالنّظر إلى
منهجها، وآلية فهمها لدين الله تعالى.
لقد مرّت على أمّتنا أطوارٌ كان
قادة القتال والجهاد فيها هم أئمّةٌ فيهم جذورٌ بدعية شديدة، وقد مدحَتهم كتب
الرّجال وما زال أثرهم الحسن يتردد على الشفاه وبالألسن، ولكن علينا ألا نغضّ
الطّرف عن الجانب البدعي فيهم، وبراءتنا منه، وعدائنا له حتى نحفظ للحقائق
وجودها، ولئلا تضيع خلال حمّى التشجيع والتأييد لهذه الطوائف.
كما
قيل: المثال يوضح المقال:
عندما نشأت الزَّندقة العجَميّة في
المجتمعات الإسلامية، وأطلّت برأسها الخبيث، وبدأت تكشف عن نفسها دون خوف أو
وجل، رأينا أن أقوى الرُّدود على هذه الزندقة كانت صادرةً من جهاتٍ مسلمة
بدعيّة، وكان لردودهم في ذلك الطور أبلغ الأثر في إزالة آثار هذه الأفكار
الإلحادية.
عندما كتب ابن الرواندي الزنديق الملحد، كتب ودعا إلى عدم
الثقة بالشريعة، وذهب (لعنه الله) لضرب دين الله بعضه ببعض، حينئذٍ قام له
رجل بدعي هو أبو علي الجباني المعتزلي ففضح أمره، وكشف جهله، وردَّ كيده إلى
نحره، مدح الناس هذا الصنيع لأبي علي الجباني المعتزلي، لكن لم ينسوا بدعته،
بل شنُّوا الغارات الشَّديدة عليه وعلى بدعته، فكان أمره وأمر الاعتزال إلى
زوال.
لو افترضنا جدلاً أن الرّوافض الإثنى عشرية وقفوا وقفةً ما،
وكان قدَرُ هذه الوقفة في خندق الحق والصواب، فهل يجوز لنا لهذا الموقف أن
ننسى من هم الروافض؟ وأنّ دينهم لا يلتقي مع دين الإسلام في شيء؟، الجواب:
لا، بل علينا أن نبقى نحن حيث نحن في تمسّكنا بالحقّ والسّنة، وعلينا أن لا
نزيل الفوارق الحقيقيّة بين أهل السنّة والجماعة والرّوافض، بحيث نزعم أو
نفتري أنّه لا فرق بين السنّي والرّافضيّ.
لقد فرح الصّحابة رضي الله
عنهم، وكانوا يتمنّون أن ينتصر أهل الرّوم (أصحاب الكتاب) على أهل فارس (أهل
الأوثان)، وليس من جامع بين المسلمين الصّحابة ومن بعدهم وبين الرّوم
النّصارى المشركين إلاّ الاسم الذي لا حقيقة له سوى الانتساب - أهل الكتاب -.
لكن هل أجاز هذا التّمنّي لهم أو لغيرهم من المسلمين أن يقاتلوا تحت راية
النّصارى جند أهل الكتاب؟. الجواب: لا، وإنّ دخول المسلمين تحت رايتهم
تُخرجهم من الإسلام، وتخلع نسبتهم إلى الإسلام.
هذه قضايا يجب أن
نعيها، وأن نهتمّ بها، لئلاّ نُزيل الحواجز الشّرعيّة التي أمر الله تعالى
بإقامتها بين النّاس في جميع مستوياتهم القريبة والبعيدة عن
الإسلام.
فإذا فهمنا هذا تمامَ الفهم حينها نخرج من المأزق، أو
الزّاوية التي يحاول بعض العقلانيين (أهل الأهواء) أن يضعونا فيها فيجبرونا
بين خيارين، أحلاهما كفر.
عندما قامت أزمة الخليج الأولى بين صدّام
العربيّ البعثيّ المرتدّ، وبين الشّيعة الرّوافض خرج علينا النّاس بمعادلة
توجب على الناظر لها أن ينضم إلى أحد الفريقين:
إمّا صدّام وإمّا
الشّيعة؛ إن كنت مع الشّيعة فأنت مع أعداء المسلمين، وأعداء الصّحابة، ورافضي
الحقّ والهدى، وإن كنت مع صدّام فأنت مع حزب البعث الذي لا يجهل حقيقته إلاّ
من طمس الله بصيرته، وانقسم النّاس إلى هذين الطّرفين وكأنّه لا يوجد طرف
ثالث، يجب على المسلم أن ينحاز إليه، وهكذا ذهبت الجماعات الإسلاميّة مهرولة
إلى أحد الطّرفين:
السّلفيّة المزعومة هرولت إلى صلاح الدّين الجديد،
وصاحب القادسيّة الجديدة صدّام حسين.
والتّيّارات الأخرى هرولت إلى
الشّيعة الرّوافض.
وأعظم من ذلك صار أهل السنّة مطيّة وألعوبة لهذين
اللعينين.
أنا لا أمنع على النّاس أن يتمنّوا أن يظهر أحدهما لوجود
جامع بينه وبين أحد هذين، لكنّ الجريمة الكبرى، والردّة الواضحة أن يدخل
المرء جنديّاً يقاتل تحت إحدى هاتين الطّائفتين.
وفي النّهاية: كلّ
طرف استثمر الحمير الذين هرولوا له ثمّ لفظهم لفظ النّواة
العارية.
ماذا استفاد الإسلام الحقّ، وكم قدّم كلّ فريق لأهل السنّة
والجماعة؟. الجواب: لا شيء.
كان الشّباب المسلم في سجون الهالك المرتد
جمال عبد النّاصر، وقامت الحرب بين الجيش المصريّ المرتد وبين اليهود، سارع
الشّباب المسلم من داخل سجونهم يلتمسون الإذن من الرئيس جمال عبد النّاصر
ليذهبوا ويجاهدوا ضدّ اليهود تحت راية مصر الاشتراكيّة
والعلمانيّة.
وأذكِّر أنّ تمنّي النّصر لأهمهما والهزيمة للآخر ليس
مما يدخل في هذا الباب الممنوع، ولكنّ الممنوع هو أن تترجم هذه الأماني إلى
موقف بذل الرّوح والبدنِ والجهدِ لأحد هذين الطّرفين.
ولو سأل النّاس
أنفسهم هذا السّؤال لفهموا المسألة على حقيقتها، ماذا سيستفيد الإسلام من
انتصار أحد الطّرفين؟ لن يستفيد الإسلام شيئاً وهما كفرسي رهان في خصومتهما
للإسلام.
إن فهمنا للتّوحيد هو الذي يجنّبنا هذه المزالق الخطيرة،
وانحيازنا الدّائم إلى السّعي الجادّ لإحياء الإسلام هو الذي يشغل أوقاتنا
ويحفظ علينا جهودنا وأعمالنا من أن يجني ثمارها أعداء الإسلام.
إن من
عادة الحاكمين أن يشغلوا النّاس المحكومين بقضايا خارجيّة، ليقضوا بها على
المشاكل الدّاخليّة، وهي طريقة يعرفها الإنسان بفطرته.
فلو افترضنا
وجود انشقاقٍ في بلدٍ ما، وعلم الحاكم هذا الانشقاق، فهو يستطيع عن طريق صنع
حركة خارجية بإيجاد معركة مع خصوم خارجيين أن يوحد البلد، ويقضي على
الانشقاق.
ففي بلد مثل الجزائر مثلا يوجد انشقاق بفضل الله تعالى على
أساس الإيمان {خصمان اختصموا في ربّهم} فهي مسألة بحسب التّصور القومي معركةٌ
داخلية، والناس هناك ينقسمون إلى هذين الوجودين، فمن أجل جمع الناس تحت راية
الطاغوت في صعيد واحد يقوم الطاغوت بصنع عدوٍّ خارجيٍّ (أجنبي) في معركة
مفتعلة، توجِّه لها طاقات النّاس ونظراتهم، فيسارع أصحاب الأهواء بالدعوة إلى
جمع الصفوف، وتوحيد الكلمة تحت راية الوطن (الوثن) ليُقضى على الخصم الخارجي،
فيتنازل المسلمون على مبادئهم تحت ظلال الدَّعوة إلى وجوب القضاء على العدو
الخارجي، وبعدها (أي بعد القضاء على العدو الخارجي) نقوم بحل مشاكلنا
الداخلية (هكذا يزعمون).
انظروا إلى الحكومة الكويتية (الفسيفسائية)
المرتدّة في طريقها لتسكيت خصومها في جميع المستويات، إنها طريقة واضحة وهي
ضرب على وتر التَّخويف من صدام وجيشه كلَّما اشتدت الأصوات وعلت بالمطالبة
بالإصلاح والقضاء على الفساد.
في ليبيا الآن حصار، والاتجاهات كلها
تحضِّر نفسها لشيء قادم موعود، هناك تيارات مختلفة ومتنوِّعة، وضرب أي جهة
يعتبر في ميزان التقويم إضعاف لها مقابل تقوية تيار معارض آخر، فهل يجوز لنا
أن لا نعمل تحت دعوى أنّ عملنا هو داخل في رصيد آخر؟.
إنّ القضاء على
الرّومان هو تقوية للفرس، والعكس صحيح، ولكن الصحيح هو النّظر إلى برنامجنا
نحن دون النظر إلى برامج الآخرين، ويعصم ذلك كلّه وجود المنهج الواضح الذي
يتبرأ من جميع أنواع الكفر والردّة.
إنّ ما يقوم به الإخوة مثلا من
كشف المعارضة العلمانية في خارج ليبيا ومعارضتها لا يدخل أبداً في خانة تقوية
الدولة، على أساس أنّ ضرب أحدهما هو ولاء للآخرين، نعم يكون الأمر هكذا حين
يكون المنهج متميِّعاً، ودون أن نكشف من أول يوم أن الدولة المرتدَّة
والعلمانية المرتدَّة هما في دين الله سواء {قاتلوا المشركين كافّة كما
يقاتلونكم كافّة}.
وأعود وأقول: ليس للأماني في هذه الأمور قيمةً،
إنما القيمةُ في الصَّف الذي تقوم فيه.
إن قيام المسلمين بقتل عرفات
وشرطته لا يعتبر تقوِية لليهود (هذا إن كانوا خصومه على الحقيقة) وإنَّ
محاولة الطّاغوت جمع النّاس تحت رايته من أجل الانتهاء من العدو الخارجي ثمّ
التفرغ للإصلاح الداخلي هي حجَّة شيطانية لا قيمة لها.
فعلى المسلم
الموحِّد المجاهد أن لا يقبل هذه الثنائية المقيتة: أنت مع صدام العربي أم مع
الأمريكان الأجانب: أنت مع صدام البعثي أم مع الشيعة الروافض؟.
أنت مع
عرفات الفلسطيني أم مع اليهود الأجانب؟
أليست هذه الثنائية الجاهلية
هي التي جعلت أفراداً من (السلفيين جدّاً) يذهبون وهم ملء قلوبهم رغبةً في
جهاد الأمريكان تحت راية صدام، وجعلت أفراداً من (السلفيين جداً) يذهبون وهم
ملء قلوبهم رغبةً في جهاد صدام البعثي تحت راية الأمريكان؟.
يا قوم
أليس لكم فئةُ حق تفيئون لها، وتعملون من أجلها، وتجنون ثمار أعمالكم إلى
جرينها، أم أنّه لا بد أن نبقى دواباً يركبها كل متلعِّب خبيث؟.
إن
للمسلم طائفة وراية ينبغي أن تكون خالصةً صافيةً، وقيادة هي منه وهو منها،
يعمل تحت رايتها، ومن أجل رفعتها.
للحديث بقية إن شاء الله
تعالى.. |