بين منهجين "84"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
قال صلى الله عليه وسلم : ((إنّكم تختصمون لديّ ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته
من غيره فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقّ أخيه فلا يأخذه إنّما أقطع له قطعة من
النّار)).
اعلم يا عبد الله أنّ مبنى أعمال البشر وأفعالهم قائمة على
الظّنّ وغلبته، وليست على اليقين والقطع، لأنّ أعمالهم قائمةٌ على االاجتهاد،
و الاجتهادُ كما هو معروفٌ في كتب الأصول لا يفيد إلاّ الظّنّ، وقد تعبّدَنا
الله تعالى بالاجتهاد - كما قال الشّافعيّ - مع أنّه غير مأمون الخطأ، ومن
معوّقات الطّريق عند حسني النّيّة وطيّبي القلب أنّهم يتركون الأعمال مخافة
الخطأ، وهذا منتهى السّلبيّة والعجز، فها أنت ترى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الحديث المتقدّم بيّن احتمال وقوع الخطأ لعارض من العوارض، ولكنّ هذا
لم يمنعه من القضاء وفضّ الخصومات بحسب الظّاهر والاجتهاد، بل إنّه صلى الله
عليه وسلم اجتهد في أمور ثمّ ثبت أنّها على خلاف الصّواب كما اجتهد في أسارى
بدرٍ من المشركين ثمّ نزل العتاب الالهيّ {لولا كتابٌ من الله سبق لمسّكم
فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال]، فقال صلى الله عليه وسلم : ((لو عذّبنا في
هذا الأمر ما نجا غيرك يا عمر)) [الطّبريّ في تفسيره وهو في صحيح مسلم رحمه
الله تعالى]، والجهاد عمل من أعمال الإنسان المسلم، فهو يقارب ويسدّد ويبغي
وجه الله تعالى، ويجتهد بحسب وِسعِه في إصابة الحقّ، فإن أصاب فله أجران وإن
أخطأ فله أجر، لأنّ التّكليف لا يقع إلاّ بالظّنّ الغالب كما قال أهل الأصول،
وقد نُقل عن الشّافعيّ رحمه الله تعالى قوله: في كلّ واقعةٍ ظاهر وإحاطة،
ونحن ما كلّفنا بالإحاطة. [المحصول 6/34]، فمن هذا الذي يستطيع أن يحيط
بالأمر من جميع جوانبه؟!! ويعلم أصله وفصله وإيالته؟!! ولذلك يكفي المسلم أن
يعمل بالظّاهر، والظّاهر يتوصّل إليه بالنّظر في الأمارة، والأمارة قد يدخلها
العطب والتّشويش أو التّعظيم والتّحسين (ألحن بحجّته)، ولكنّ هذا (القد)
المحتمل لا يمنع العامل من العمل وإلاّ لبطلت الشّريعة وتعطّلت الحدود، وترك
النّاس دينهم وأعمالهم.
ثمّ اعلم أنّ الكثير من الأحكام الشّرعيّة
مبنيّة على غلبة الظّن لا على اليقين، لأنّ مبناها على السّنّة، وثبوت السنّة
يتمّ باطمئنان المسلم لثبوت هذا الحديث عن طريق صدق راويه وضبطه، وهي أمور
نسبيّة لا قطعيّة، فثبت أنّ فروع الشّريعة ثبتت بغلبة الظّن، وتصحيح المسلم
عمله يكون بغلبة الظّنّ، وقد عاب أهل العلم طلب اليقين في موطن الظّنّ،
واعتبروا أنّ هذا الفعل هو من أسباب هلاك الدّين وفرْط عقد الشّريعة، وتركِ
مهمّات الأمور، قال الجوينيّ في الغياثيّ، وهو يتكلّم في باب «الإمامة»
و«السّياسة»: معظم مسائل الإمامة عرية من مسالك القطع، خلية عن مدارك اليقين.
[فقرة 96]، ويقول: كلّ ما لم يصادف فيه إجماعاً اعتقدناه واقعة من أحكام
الشّرع، عرضناه على مسالك الظّنون وعرضناه على سائر الوقائع، وليست الإمامة
من قواعد العقائد (أي التي تتطلّب اليقين) بل هي ولاية عامّة، وعبارة معظم
القول في الولاة والولايات العامّة والخاصّة مظنونة في محلّ التأخّي (أي
التحرّي) والتّحرّي. [فقرة 72] ونفسها في [فقرة 221]، حيث يقول: "والذي يجب
الاعتناء به تمييز المقطوع به عن المظنون، ومستند القطع الاجماع، فما اتّفق
ذلك فيه تعيّن في الاتّباع، وما لم يصادف فيه إجماعاً عرضناه على مسالك
النّظر، وأعملنا فيه طرف المقاييس وأدرنا فيه سبل الاجتهاد"، بل إنّ الجوينيّ
يعتبر أنّ الفقه هو التّدرّب على مآخذ الظّنون وإدارتها حتّى يتبيّن لك
التّرجيح. يقول: "أهمّ المطالب في الفقه التّدرّب على مآخذ الظّنون في مجال
الأحكام، وهذا هو الذي يسمّى فقه النّفس، وهو أنفس صفات علماء الشّريعة"،
والجوينيّ يعلّق هلاك الأمّة وتجنّبها منهج الاقتصاد بـ: والسّبب الظّاهر في
ذلك، أنّ معظم الخائضين في هذا الفنّ يبغون مسلك القطع في مجال الظّنّ،
ويخرجون عقدهم باتّباع الهوى، ويتهاوون بالغلوّ على موارد الرّدى، ويمرحون في
تعاليل النّفوس والمنى. [فقرة 69]، نعم والله إنّ هؤلاء القوم يمرحون في
تعاليل النّفوس والمنى.
أمّا كيف وقع في واقعنا هذا فإليك
التّفصيل:
لقد مارس بعض المسلمين عمليّاتٍ جهاديّة، وسبل دعويّة، وحيث
لم تكتمل أسباب النّجاح لعجزٍ أو كسلٍ فتقدّم منهم من تقدّم إلى ربّه، وراح
إليه وهو مجاهدٌ شهيد، وأصيبَ من أصيب فخرج منها ناقص العضو إذ قدّم بعض
أجزائه إلى الآخرة، وبعضهم خرج وهو شاكرٌ لربّه أن وفّقه لعمل الخيرات وصرف
الوقت في الخير والجهاد، وبعضهم خرج يضرب كفّاً بكف وهو يبكي على سنين عمره
التي ضيّعها ولم تثمر النّتيجة التي حلم بها وملأ بها جوانحه، وخرج بنفس
مبتورةٍ تشكّ في كلّ شيء، وتشكّ في كلّ طريق، وساعده في الوصول لهذه النّفس
المبتورة دعاة الإرجاف وأعلام الهزيمة والخذلان حيث استقرّ في ذهنه قولهم،
وانطبعت في قلبه شبههم: هاهي تجربتكم الجهاديّة في مكان كذا وكذا، وها هي
نتائجها، فانظروا إليها، أما تعلّمتم؟ أما اتّعظتم؟!!، فيقع في التّردّد
والحيرة وحينئذٍ يكون كما قال الجوينيّ: "ويمرحون في تعاليل النّفوس والمنى"،
أي أنّه يقف جامداً بلا حركة ولا نشاط يعلّل نفسه ويمنّيها بأن يقع فيها
القطع اليقين على شيء أو عمل أو حركة يجزِمُ بنتيجتها، ولا يأمَنُ ضياعها أو
تغيّرها، هؤلاء نراهم لا يثِقون إلاّ بأنفسهم، ويربطون خير الأمّة بقيادتهم،
فإن فاتهم غيرهم إلى عمل أو حركة ذهبوا يرفعون راية التّشكيك، ويحرّضون قلاع
التّخذيل ويصيحون: رويدكم فما هذا الذي ترونه إلاّ كسابقته وقد جرّبنا هذه
الحركات وهذه الأعمال فلم تعد تخدعنا، وقد جرّبنا وجرّبنا (ما شاء الله
ياعلماء هذا الزّمان، ويا أئمّة الأمّة)، وإنّي لأحسّ في هذه النّفوس النّفاق
من وجهين: الوجه الأوّل: أنّهم لا يرون الخير إلاّ في أنفسهم، ولا يثقون إلاّ
بذواتهم، إذ امتلأت أنفسهم برؤية الذّات وتعظيمها وهذا منتهى النّفاق. والوجه
الثّاني: أنّك تحسّ في أنفسهم تمنّي وقوع الشّر الذي توقّعوه، ويرغبون من كلّ
جوانحهم أن لا يقع الخير الذي تمنّاه غيرهم، فهم يرجون الشّرّ للأمّة لتصحّ
توقّعاتهم وما أساؤوا فيه الظّنّ.
وهناك قسم آخر من البشر، وهم قسم
يكيل بمكيالين، ويزن بميزانين: ميزانُ ما يقوم به ويؤيّده، وميزان ما يقوم به
غيره أو يؤيّده غيره، (والتأييد جانب نفسي أكثر منه شرعيّ مبنيّ على دليل):
إن كان ما يقوم به ويؤيّده فهو لا يحسّ إلاّ بالجوانب الحسنة، ولا يرى إلاّ
الجمال وعينه عن الأخطاء معطوبة وكليلة، فهو يحسِّن كلّ ما يقع ويُسبِغ
الشّرعيّة على كلّ حدث، ويناور ليُثبِت مراده، وإن كان الآخر فهو على العكس
تماماً: تشكيكٌ دائمٌ ونقدٌ دائمٌ، وعيوب ظاهرة: وعين الرّضى عن كل عيبٍ
كليلةٌ...
والجانب الصّحيح أن يكون الرّجل منصفاً في الحبِّ ومنصفاً
في البغضاء: أحبِب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك
هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
لقد قاتل النّاس مع الأفغان
وأحسَنوا فيهم الظّنّ إلى أبعد حدّ، فوقع بعض الخير وتخلّف بعضه فماذا
كان؟.
لقد قاتل بعضهم مع عزّت بيجوفيتش في البوسنة، حيث جالسوه فرأوا
فيه المسلم التّقيّ، وظنّوا (ظنّوا) فيه من الخير إلى أبعد حدٍّ، فهل كان
أمرهم مبنيٌّ على الظّنّ أم على اليقين؟ فوقع بعض الخير وتخلّف أكثره فماذا
كان؟.
لقد جاهد من جاهد، واجتهد من اجتهد، وهاجر من هاجر، وابتُلي من
ابتُليّ، وتعلّم من تعلّم، واستُشهد من استُشهد، فهل هذا ممّا يؤسَفُ عليه أم
أنّ هذه هي الحياة التي ينبغي أن يعيشها أهل الإسلام؟.
ثمّ اعلموا
حفظكم الله أنّ حصول تمام ومنتهى النّصر لا يقع مرّة واحدة، وإنّ النّصر
النّهائيّ هو محصّلة نهائيّة لحركة حياة جهاديّة كاملة، فيها النّصر، وفيها
الهزيمة، فهل فتح مكّة تمّ بين ليلة وضحاها؟ أم أنّه وقع بعد سنين من
المعاناة: نصر في بدر، هزيمة في أحد، فتن وآلام وملاحم في الخندق، مناورات
عسكريّة ودعويّة في الحديبية، ثمّ وقع الفضل الإلهيّ بفتح مكّة، لكنّه بعد
مقدّمات ومقدّمات، فهل الوصول إلى القمّة يتمّ بقفزة واحدة كما يفكّر أهل
التّصوّف الفكري المعاصر من أصحاب نظريّة العصى السّحريّة: ضربة واحدة فإذا
نحن في بلد الإسلام وبلد العزّة والهجرة، مالكم كيف تحكمون؟!!.
المسلم
لا يعلم الغيب لكن إن قُدِّر لبعضنا أن يعيش ويرى الثّمرة النّهائيّة وهي
تسقط على أصحاب الفضل الإلهيّ سيدرك أنّه ما من حركة قام بها أهل التّوحيد
والجهاد إلاّ وكانت لبنة في البناء النّهائيّ: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت
من الخير وما مسّني السّوء}.
لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يُدركون أنّ صلح الحديبية هو فتح من الله، وهو مقدّمة فتح الفتوح مع
وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ومع أنّه هو الذي عقد العقد، وأنشأ
الصّلح، إلاّ أنّ نفوسهم لم تكن تحتمل هذه الواقعة، ولكن سبق علم الله علمهم،
وكان ما أراده الله لهم.
نحن على الطّريق نسدّد ونقارب: نعمل ونعمل
ونبقى في مواقعنا لن نتزحزح منها حتّى يأتينا أمر الله ولن نعتَذِر عن عمل
بنيناه على الاجتهاد، ورجونا خيره، وحصول ثمرته الكلّيّة، فإن وقع ما أمّلنا
فهذا فضل الله وحده، وإن كانت الأخرى: فيا الله يا صمد، يا عالم السِّرِّ
وأخفى ويا من بيده ملكوت السماوات والأرض، أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك
العليا أن تقبضني إليك، فلا أرى ولا أسمع ضحكات التَّشفِّي والغُرور، فإنّي
رجل والرّجال لا تطيق ذلك.
اللهمّ آمين.. آمين.. |