بين منهجين "86"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
كثيرة هي المرّات التي يتخلّف النّاس فيها عن الحقِّ بسبب الهوى وشدّة
تكاليف الثَّبات على الطريق، ولكن قليل هي الحالات التي يعترف فيها هذا
المتخلّف بهذا السّبب، فإنّ المتخلّفين لابد لهم من ستر هذا الهوى وهذا
الضّعف بصور من التبريرات التي يحاولون بها إقناع النّاس أنّ تخلّفهم له من
الأسباب المقنعة والموضوعيّة، فأوّل ما يفعلونه يذهبون إلى الحق لشتمه وتزوير
حقيقته، أو لتعظيم بعض الجوانب السلبيّة على الحقيقة الظّاهرة، والقرآن
الكريم كشَفَ لنا هذه الأساليب خير كشف، وعرَّاها لنا لنكون على بصيرةٍ ونورٍ
من هذه المكائد النفسيّة، وليُعلّمنا أنَّ محاولاتهم هذه مكشوفة غيرُ مستورة،
وأنّها وإن تقنّعت بقناعٍ حاجب، فهو في الحقيقة قناع زائفٌ يشفُّ ما تحته،
ويبيِّن ماوراءه لمن تمعّن فيه ولم تغرّه الصور الظّاهرة.
في قوله
تعالى عن المنافقين في أول سورةٍ نقرؤها فيها ذكرهم: {وإذا قيل لهم آمنوا كما
آمن النّاسُ قالوا أنؤمنُ كما آمن السفهاءُ ألا إنّهم هم السّفهاءُ ولكن لا
يعلمون}.
هذه الآية عظيمةٌ في كشف النّفاق والمنافقين، وطريقتهم في
التنفير من الحق، وهي كلّما سمعتُها أو قرأتُها تمثّل لي أولئك القومُ الّذين
مرّوا على مدار التاريخ الإسلامي وإلى يومنا هذا في ادّعاء الفهم الثّاقب،
والعقل الواسع، والإدراك العظيم للقضايا التي تُطرح أو تُعالج، وهم مع هذه
الدعوى ينبزون الأثَريين والسّلفيين بضيق الأفق، وقلّة المعرفة، وسذاجة
الفهم، وبسبب هذا ينفرون عن الحقّ بسبب سهولته، ويتعاظمون نفاقاً عن الحق
بسبب أنّه حقّ عملي له تأثيره على الواقع.
في التاريخ وُجد الفلاسفة
الذين يحللون الخبر ولا يصنعونه، ويدرسون التاريخ وهم خارج حركته، ولهذا قلّ
ما نجد فيلسوفاً استطاع أن يكون قائداً عسكريّاً، أو إداريّاً ناجحاً أو
سياسيّاً خبيراً، حتّى صار في عرف الدارسين قولهم: الفيلسوف لا يصلح للسياسة،
وكذا لا يصلح للقيادة فنشأت ثنائيّةُ الفيلسوف والقائد، والفيلسوف والإداريّ،
والفيلسوف والسِّياسي.
والسَّبب كما هو واضحٌ أنّ الفيلسوف يعيش
أوهامَ عقله، ويحلِّق بأجنحةِ الفِكر فوقَ السَّحاب، ولا يُتقِن السَّير على
طريقة البشر فوق الأرض.
هذه ثنائيّة توجد في عالم البشر والنّاس، وكم
شكى القادة العسكريّون وكذا السّياسيون من أوهام الفلاسفة
والمفكِّرين.
في العالم الإسلامي تاريخاً وحاضراً:
القرآن
سماهمّ منافقين وقال لهم: {آمنوا كما آمن الناس}، وانظر إلى قوله
تعالى:{النّاس}، هو الإيمان على صورة واحدة وحقيقة واحدة يعيها الناّس جميعاً
بفِطرهم على حقيقة واحدة دون تفاوت في أصلها، يا قوم آمنوا كما آمن النّاس،
فهذا هو الذي أرتضيه منكم، وهذا هو أمري لكم، فلا تُغالوا، ولا تتقعَّروا،
ولا تتعمّقوا تعمقاً ممقوتاً، آمنوا كما آمن بلال، وكما آمن ياسر، وكما آمن
البدوي والحضري، فإن سألتم ما الإيمان وما تعريفه وما حدّه، قال لكم ابتداءً:
هو شيء تعرفونه في أنفسكم فلماذا تسترونه، وهو شيء يلفح قلوبَكم بِحرارته
فلماذا لا تعترفون به؟.
وأنت أمام هذا تتذكّر أمر الله تعالى لليهود:
{إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}.
فالمؤمن لا يتقعّر، ولا يداري
ليستر الحقيقة، ولا ينشغل بالحدِّ عن المحدود، أي باللفظ عن الحقيقة، ولا
بالاسم عن المسمّى، بل هو يفهم من القول أن يتحرّك ليذبح بقرة، أمّا كون لفظ
الذّبح له معنىً خاص ووقع خاص وله شواهد في لغة الشعراء، فهذا لا يفكَّر فيه
ابتداءً، بل يستقرّ في قلبه إرادة الحركة لتحقيق الفعل: أن يذبح بقرة. هكذا
يتلقّى المؤمن أمر الله تعالى، يتلقَّاه ليعمل به، فإذا عمِل به شعر بحلاوة
الإيمان في قلبه، وازداد ألقُ العلم في نفسه، وفتح الله عليه المعارف التي
تؤيّد صلته بالله تعالى.
أمّا اليهود، أهل السّفسطة والجهالة، فكان
وقع الأمر عليهم على صورة أخرى:
هذا أمر جميل، لكن لا بدّ أن نوقعه
على طريقة لا تتلاءم مع ما يفهمه (النّاس)، فالسّاذجون هم فقط من يفهم البقرة
أنّها البقرة، فهل كلّ بقرة تصلح لأن تقدّم لتنفيذ أمر الله، فتعالوا إذن
نسأل عن البقرة؟.
كان شأن اليهود يوم ذاك أنّهم يعيشون وبين يديهم
نبيٌّ يوحى إليه، فصاروا يدورون ويحاورون حول صفة البقرة، لكن لنتخيّل أمر
أولئك اليهود في زمن لا يوجد فيه نبيّ.
قيل لهم: {إنّ الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة}، فماذا سيقول أصحاب السّفسطة (أو السّفهاء كما سمّاهم القرآن):
قَطعاً سيجلسون أمام هذا الأمر محرّفين ومؤوّلين لحقيقته لصرفه عن كونه
دافعاً لهم للعمل والامتثال، ولكنّه كلّما ابتعد المرء عن الحقيقة الأولى
التي تستقرّ في ذهنه فلا بدّ أن يزداد رهَقاً وتعبَاً، فلمّا زاد اليهود في
السّؤال ازداد ضيق الأمر عليهم {فذبحوها وما كادوا يفعلون}.
قيل لهم:
آمنوا كما آمن النّاس.. قالوا: أنؤمن كما آمن السّفهاء.
هي كما ترى
أخي في الله تقع على معنيين:
الأول: أنّهم رفضوا اتّباع الحقّ بسبب
أنّ أهل الضّعف والفقر والمسكنة قد سبقوهم إليه، فأنِفَت نفوسهم الخبيثة أن
يساووا بينها وبين أولئك القوم الذين أكرمهم الله تعالى بنور الإيمان وبَرْد
اليقين، فرفضوا الإيمان وتنكّبوا عنه، وقد صدر منهم ما يدلّ على كِبرهم هذا،
وذلك أنّهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم يوماً خاصّاً،
أو مجلساً منفرداً يحدّثهم فيه عن الإسلام والإيمان، فلمّا أراد أن يميل لهذا
القول طمعاً في هدايتهم قال الله تعالى له: {واصبِر نفسك مع الذين يدعون
ربّهم بالغداةِ والعشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناكَ عنهم تريد زينة الحياة
الدُّنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرُطا% وقل
الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وهكذا سلب الله من النّاس
القدرة على أن يجعلوا للحقّ قيمة من عند أنفسهم، بل الحقّ قوّته تكمن في نفسه
لأنّه من الله تعالى {وقل الحقّ من ربّكم} فالحقُّ لا يزداد قوّته بإقبالكم،
ولا تضعف قوّته بإدباركم، الحقّ تكمن القوّة فيه بسبب أنّه من الله تعالى،
وأنتم الذين تنتفعون به وليس هو الذي ينتفع بكم.
المعنى الثاني: أنّهم
استكثروا على أنفسهم أن يفهموا الحقيقة على صورتها الأولى دون تأويل ييُطل
حقيقته، فراحوا يشتمون الفهم الأوّل والذي يعيه النّاس جميعاً بحجّة أنّه فهم
ساذج، وطريقةٌ لا تليق بعقولهم الكبيرة كما يزعمون، فلمّا انشغلوا بالتأويل
المتعمّق والتّقعّر الفاسد فاتهم نورُ الإيمان الذي لا يستقرّ في القلب ولا
يشعر به إلاّ بعد الإقرار والتّصديق، وحينئذٍ بدأ الشّيطان بأخذهم إلى شبهات
العقول فأفسد عليهم عقولهم.
فالمعنى الأوّل يدخل فيه أهل المناصب
والأموال ممّن يأنفون عن الحقّ بسبب اتّباع عوامّ النّاس له فهم أهل الشّهوة،
والمعنى الثّاني يدخل فيه أهل السفسطة ودعاة التّعمّق والتّفكّر فهم أهل
الشبهة، وهم داخلون في التّقرير الأوّل: {ومن النّاس من يقول آمنّا بالله
وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين% يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ
أنفسهم وما يشعرون}.
فهكذا هي القضيّة: قضيّة أقوامٍ أعيتهم الأعمال،
وأرهقهم الاتِّباع، فراحوا يزعمون العلوَّ في الدّنيا مادَّة ومعنىً، ولكن
ليتذكّر أولئك أنّ عامّة أهل الجنّة هم الفقراء.
وليتذكّر أولئك أنَّ
عقول غيرهم أكبر من عقولهم، ولكن لا يصنع التَّاريخَ إلاّ العاملون، فاللهمّ
اجعلنا منهم.
والله الموفّق
|