منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "88"
   بين منهجين "88"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

من المهمّات العظمى لهذا الدّين هو إخراج المرء من دواعي هواه إلى دواعي تحقيق العبوديّة لربّ العالمين، ومن صُوَر هذه المهمّة أنَّ الإنسان بطبعه تَقصُر نَظْرته إلى الواقع الضيّق الذي يعيش فيه، ويكون همّهُ أن تفرج عليه بمقدار هذا الواقع والهمِّ الضيّق، ويظنُّ أنَّ منتهى الطَّلب وغاية المنى هو تحرّره من ضيقه الآني وحفرته الصغيرة، وهذا هو همّ نفسه وغاية هواه، ولمّا يخرج المرء من همّ نفسه وغاية هواه إلى مقصد الرب من نفسه وغاية الإله من أداته فإنّه وإن كان الإنسان المسلم في لحظة من اللحظات يعيش هذا الهوان وهذا الضيق فإنّه متطلّع إلى غاياتٍ عظمى ومقاماتٍ جليلة وهي مقاصد الرب التي تتلاءم مع قوّته وعظمته، مع أنَّ غايات الإنسان الضعيف تتلاءم مع ضعفه وعجزه.

لو أنّ إنساناً مسلماً في سجنٍ من السجون، وهو يذوق أصناف العذاب ويلاقي أشدّ الهوان، فإنّ مقصده هو، بل أعلى مطالبه أن يخرج من هذا السجن ويعفى من هذا العذاب، ويظنّ أنّ ذلك هو غاية ما يمكن أن تبلغ رحمة الله تعالى به، ولكن من مهمَّات هذا الدّين ومن مقاصده أن يرفع شأن نَظَره، ويعلي درجة غايته أنّ يقود العالم، ويحكم الدّنيا وتخضع له الأرض، ويكونُ ذلك أمَلُه وهو في هذه الحالة من الهوان، فهو يتعامل مع قويٍّ عظيمٍ قادرٍ على كلّ شيء، ولا ينظر فقط إلى حالته هو وقوَّتِهِ هُو.

عندما كان الصّحابة رضي الله عنهم يأتون إلى الرّسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في أشدِّ حالات العذابِ والفتنةِ وهم في مكّة، ويشكون له هوانهم على النّاس، وألم العذاب وضيق الحياة، فهم في هذه الحالة وهم في شدّة من أمرهم، وضيق بدنيٍ ونفسيٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع أعينهم وهممهم ونظرتهم إلى غاياتٍ لا يحلمُ بها الإنسان في هذا الموطن، ولا يتفكّر بها، فالموشك على الموت من الجوع لا يرجو أطايب الطّعام ولا أجوده ولا أرفعه و أعلاه ولكنّه يحلم بقِطعةِ خبزٍ، أو بكسرةٍ جافةٍ، فهذا منتهى أمله وغاية مطلبه، ولكنّ المؤمن يتعامل مع الله تعالى، فهو مدعوّ إلى أن يرفع همّته، ولذلك كان جوابُ النّبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم وهم في مكّة وهم يشكون شدّة العذاب فوق ما يحلمون ويرجون: ((والله لتسيرنّ الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها ولكنّكم تستعجلون))، ويقول لهم في موطن آخر: ((والله لتفتحنّ كسرى وقيصر ولتنفقنّ أموالهما في سبيل الله))، كما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، فالصّحابة رضي الله عنهم مشغولون بالحفاظ على أنفسهم لئلاّ تهلك وعلى أعراضهم لئلاّ تُسبى وتُنتهك ومع ذلك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبشّرهم بفتح كسرى وقيصر.

وهذا أمرٌ فيه الامتحان للنّفوس والعقول فإنّ من في دينه شكّ وريبة فإنّه سيقول: {غرّ هؤلاء دينهم}، لأنّه حينئذٍ ينظر إلى قوّته ويتعامل مع هذا الدّين من خلال نفسه لا من خلال واضعه ربّ العزّة والجلال، وأمّا المؤمن فهو الموقن بموعود الله تعالى ويرقُبه أيقع عليه أم أنّ الشّهادة ستكونُ أقرب إليه من الوعد الإلهيّ؟.

ثمّ هذا فيه هدف آخر وهو رفع شأن نفس المؤمن ليغيّر واقعه ويسعى لإصلاحه وتدمير الباطل فيه، فالمؤمن يحمل نفسيّة المُهاجم دائماً حتّى وهو ضعيف عاجز، ولا يجتمع هوان نظرة المؤمن مع هوان واقعه، ولا يرضى لليأسِ أن يُصيب قلبه ونفسه، بل هو مستعلٍ بالإيمان دائماً وأبداً في أيّ حالة كان وعلى أيّ موطن من درجات الدّنيا كان مُستَقرُّه، فإذا علم أنّ مهمّته لا تعدو الخروج من مأزقه والإنفكاك من عذابه، بل مهمّته تتجاوز ذلك بأن يهاجم الباطل، ويصارعه ويحاربه حتّى وهو صريع ضعيف فبهذا يكون حاملاً دائماً نفسيّة المسلم العزيز بربّه والواثق بنصر الله تعالى وصواب دينه، انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير داعياً إلى الله تعالى في مكّة، فهو مستضعف معذّب، وقريش تُريه ألوان العذاب فهي تضع على ظهره فرت الجزور وهو ساجدٌ في ظلِّ الكعبة، ويبقى كذلك حتّى تأتيه فاطمةٌ رضي الله عنها فتزيل عنه القاذورات وقريش تضحك بملء فيها، ومع ذلك كلِّه فهو يوزِّع عليهم النُّذر، ويبشِّر بالعذاب، ويعدِّدُ عليهم ماذا سيصنع بهم، فهو الذي قال لهم يوماً وقد اساؤوا الإجابة له إساءةً بالغة: ((لقد جئتكم بالذّبح))، فيردّ أبو الحكم مرتعداً على هذه النّذارة: يا محمّد ما كنت جهولاً قبل اليوم، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أنت الجهول))، ومن يومها فأبو الحكم هو أبو جهل، وهو الذي قال لرجلٍ من قريش وقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمرِّنُ مهراً من خيوله، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: على هذا سأقتلك يا محمّد، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أنا قاتلك إن شاء الله))، فيكون هو الرّجل الوحيد الذي يقتله الرّسول صلى الله عليه وسلم بيده الشّريفة رحمة منه لأنّه القائل: ((أشدّ النّاس عذاباً من قتل نبيّاً أو قتله نبيّ)).

ولهذا الأمر هدف آخر وهو هدفٌ تربويٌّ وهو أنّ المؤمن الصّالح لا يضع خُطَطاً قصيرة الأمد، ولايقصر نظره على ما هو أمامه فهو يتعامل لا مع الخطوة التّالية فقط، ولكن يضع خططه لآلاف الخطوات القادمة، فهَمُّ الخطوة الأولى كيف يخرج من واقعه، ولكنّ الخطوة التّالية هي كيف يغيِّر واقعه، وبعدها كيف ينتقل إلى غيرها وبعدها وبعدها، فهو ممتلئُ النّفس بالمهمّات العُظمى ولا يقف عند حدٍّ، ولا ينتهي عند نقطةٍ قاصرةٍ بل هو ينتقل من عملٍ إلى عمل، ومن خطوةٍ إلى خطوة، وكلّها في ذات الإله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب} فحيث انتهى من مهمّةٍ نصب نفسه في مهمّة أخرى.

ثمَّ لهذا الدّاعي هدفٌ آخر وهو امتلاء النّفس بأمر الله تعالى والنّظر إلى مطالبه وأوامره ومقاصد هذا الدّين، وليس النّظر القاصر إلى نفسه وهواه ومطالبه هو فقط، فإنّ مهمّة هذا الدّين أن يبسُط سلطانه على الأرض كلّ الأرض، فمن امتلأت نفسه بذلك افترق عن الآخرين بلا شكّ، وإذا أردت أن تنظر إلى الفارق المهمّ بين الجيل الذي ربِّيَ على هذه الوعود العظيمة وهو حُكمُ الأرض كلّ الأرض وبين الجيل الذي في ذهنه أن يكون غاية مناه أن يتوسّع الضّيق عليه قليلاً هو هذا الذي تراه من الفقه الأعوج المرذول والذي يخرج من أفواه هؤلاء المشايخ السحرة، أو من قبل الحركات المهترئة، فإنّ عامّة الجماعات وكذا المشايخ الذين يقرؤون الواقع كثيراً، فينشغلون بتعداد أسلحة أمريكا وجنود أمريكا، وأسلحة إسرائيل وجنود إسرائيل، وجنود الشّرق والغرب فإنّ انشغالهم هذا دون القراءة الطوليّة أو المعادلة لقراءة الواقع لوعود النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبِشاراته وقوّة الله وقُدرته أوقعت في نفوسهم اليأس والخِذلان والرّهبة إلى درجة الارتعاش وبالتّالي خرج منهم فقه الهزيمة والخُنوع، أو آراء التّبرير والتّسويغ لهذا الواقع فهم يعرفون قوّة القنبلة الذرّيّة، ويعرفون قوّة الصّواريخ العابرة للقارّات، وقوّة الطّائرات الأسرع من الصّوت، ولكن أنّى لهم أن يعرفوا قدرة الله تعالى، أو يعرفوا عظمةَ الله تعالى، أو يعرفوا قوّة وقدرة جنود الله تعالى؟!!.

أنّى لهؤلاء أن يعرفوا أنّ ملكاً من ملائكة الله تعالى قادرٌ على أن يجعل الأرض ومن فيها نَسياً منسيّاً؟!!.

أنّى لهؤلاء أن يقرؤوا وصف ملك من ملائكة الله مابين شحمة أذنه إلى عاتقه خمسمائة سنة؟!.

أنّى لهؤلاء أن يقرؤوا بشارات النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا الدّين سيبلغ ما بلغ الليل والنّهار؟!!.

أنّى لهؤلاء أن يقرؤوا وعود النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّ جند الله سيفتحون روما ويعلّقون سيوفهم على شجرها؟!!.

أنّى لهؤلاء أن يعرفوا شيئاً عن جنديّ ضعيف من جنود الله تعالى لو سلّطه على قواهم لصارت أثراً بعد عين؟!!.

فلو أنّ الله سلّط الرّيح على قوّاتهم فماذا ستفعل بهم؟؟.

لو أنّ الله سلّط على جنودهم مرض الإسهال فكيف سيكون حالهم؟!.

لو أنّ الله سلّط الطّاعون عليهم فمن يرفعه عنهم؟؟.

اللهمّ يا واحد يا أحد عجّل بنصرك لعبادك، وأرِنا في أعدائك وأعداء دينك وأعداء المسلمين عجائب قدرتك.

{فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب}

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws