منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "83"
   بين منهجين "83"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

إنّ من بين المعوقات التي تمنع الكثير من طيبي القلوب وحسني النيّة من متابعة تأييدهم ومشاركتهم للأعمال المؤثِّرة في حياة البشر هو أنهم يعيشون حالة من التسامي مع الأفكار والمبادئ، ويشعرون بجمالها وهي تحاور على الورق أو تناقش في النّدوات والجلسات الممتعة، لكنّها حين تخرج من حيّز القول والإعتقاد إلى عالم التطبيق والحقيقة فإنهم يصابون بالصدمة النفسية إذا لم يكونوا يربطون بين جمال الأفكار المجردة وبين صورتها الواقعيّة والعمليّة، وهؤلاء على الدّوام يخسرون التّأثير وكذلك يُكثرون اللوم والتّقريع.

حين يأتي شيخٌ ويتحدّث عن حكمة وعظمة التّشريع في حدّ الزّاني المحصن، وأنّ الرّجل أو المرأة يُشدّان إلى ثيابهما ويوضعان في وسط النّاس، وتحضّر لهما الحجارة فيقوم النّاس برمي الزّاني والزّنية بهذه الحجارة حتّى يتمّ موتهما، هذا المنظر بكلّ انفعالاته الواقعيّة، وبكلّ ما يحمل من مدلولات وتأثيرات على النّفس، إذ عليك أن تتصوّر صراخ المحدودين ونزيف الدّماء، وصياح النّاس، وتفاوت النّفوس في رؤيتها لهذا الحدث، فهذا محبٌّ للمرجوم فهو يبكي على حالته، وقد تضطرب نفسه فيصاب بما يصيب أمثاله إن كان من ضعاف النّفوس في موقفه أمام هذه الأحداث فقد يشهق شهقة، وقد يرتفع عويله وصراخه فيقع منه الهذيان، وقد يجتمع أطفال الزّانية أو أولاد الزّاني فيبكون فقيدهم، مثل هذه الصّور قد لا يستطيع الشّيخ الذي يتحدّث عن عظمة التّشريع وحكمه أن يواصل النّظر إلى الحدث حتّى نهايته، وقد لا يُطيق رؤية الدّم وهو يخرج كالنّافورة من رأس المرجومة فيصاب بالغشيان أو يخرّ صريع الغيبوبة، فهناك فارق كبير بين جمال الأفكار وبين واقعيّتها.

حين يتحدّث النّاس عن الجهاد في سبيل الله تعالى، فهذه كلمة جميلة وجميلة جدّاً - الجهاد في سبيل الله تعالى - ولكنّ واقع الجهاد ليس جميلاً كلّه في كلّ أحداثه، فالجهاد ليس هو هذه الخطب الرّنّانة، وليس هو تلك الكلمات الجميلة، وليس كلّه غنائم وسبايا، وليس كلّه نصرٌ مؤزّر، وليس كلّه خطبٌ ناريّة، بل فيه موت الحبيب، وفيه جرح الصّديق، وفيه تطاير الأشلاء وفقد المال، وفقد المُعيْن، وبمعنى آخر فيه جانب من المشقّة، بل المشقّة العظيمة، ثمّ فيه اختلاط الجنود وحصول الخصومات بين النّاس، فهذا ضرب هذا، وهذا خاصم هذا، وهذا شطّ على هذا، فهو حركة بشريّة، وفيه أخطاء واجتهادات، وتأويلات بعضها يستساغ وبعضها ليس كذلك، فهناك حدٌّ فاصل بين جمال الفكرة وسموِّها وبين واقعيّتها.

لو أخذنا تصوّر النّاس وخيالهم لِواقع الدّولة الإسلاميّة، لوجدنا أنّها أقرب ما تكون في أذهانهم إلى عالم الأحلام، عالم مليء بالصّور الجميلة، والفراشات الطّائرة، والألوان الزّاهية، والسّماءُ تُنزل غيثها على الدّوام، والضّرع مليء في كلّ حين، والأعداء يخافون جانبنا لِما يعلمون من نزول الملائكة معنا في القتال، فهم يتصوّرون دولة الإسلام التي لا فقير فيها، ولا مريض فيها وكلّ من طلب شيئاً فهو بين يديه، ولكن لو نظرنا لدولة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما وجدنا هذه الجنّة، بل لوجدنا أنّ معاناة الصّحابة رضي الله عنهم في دولة الإسلام في المدينة أشدّ من معاناتهم وهم في مكّة.

فهل حصل للصّحابة رضي الله عنهم في مكّة ما حصل لهم في غزوة الخندق {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظّنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً} في دولة الإسلام زاغت الأبصار وبلغـت القلوب الحناجر، وابتلاء كالزّلزال بل هو الزّلزال نفسه.

قارن بين هذه الصّورة وبين الصّورة التي يحاول رسمها مشايخ هذا الزّمان لدولة الإسلام، فهم يَعِدون النّاس بالدّولة التي لا خوف فيها ولا مشقّة، بيتٌ لكلّ إنسان، طعـامٌ لكلّ بطن، والنّاس يدخلون في الإسلام لمجرّد رؤيتهم لنا ولدولتنا، وعلى هذا فالنّاس يأتون إلينـا (إلى جماعتنا) لأنّ في أذهانهم أننا الحزب الذي سيؤمن لهم من النعيم الدنيوي أكثر مما تؤمنه الأحزاب الأخرى.

لكن لو قلت لكم: إنّ ثلاثةً من الخلفاء الراشدين ماتوا قَتلاً، وعلى يد أُناس لم يحتاجوا لكثير من التخطيط لقتلهم:

- فعمر بن الخطاب رضـي الله عنه قتله عدوّ الله أبو لؤلؤة المجوسيّ وهو قائم في صلاة الفجر، بين يدي شيوخ المسلمين وعلمائهم وقادتهم ورؤسائهم.

- عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه انطلق الهوجاءُ وسيطروا على المدينة حتى دخلوا على الخليفة الصائم رضي الله عنه وذبحوه في بيته (في وسط المدينة بين الناس).

- عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالىعنه، في وسط المسجد وهو قائم يدعو الناس إلى صلاة الفجر، وبين طائفة، يأتيه ابن ملجم الخارجيّ فيضرب هامته بالسّيف بتصرُّف فرديّ وباتّفاقٍ مع آخرين على قتل معاوية وابن العاص، وهذا عصر الخلافة الراشدة وما أدراك ما بعده ولذلك علينا أن نقول: إنّ الذين يتصوَّرون عالم الإسلام العَمَلي (حركة المرء المسلمة في الحياة) هو عالم لا يمتّ إلى عالم البشر، وهو خارج عن حركة الحياة برمّتها هؤلاء واهِمون، ويعيشون تهويمات وخيالات فبمجرد اصطدامهم بالصّورة الحقيقيّة لهذه الحياة ستجدُهم ينقلبون على أنفسهم، يعلنون اعتزالهم وعدم قدرتهم على تحمُّل هذه الحياة.

إنّ العيش مع الكتب وبين الكتب، ومع الأفكار والقلم والورقة ليس هو الإسلام إنّما الإسلام هو حركة الحياة، حركة البشر (الإنسان) بما فيه من صواب وخطأ، فالصواب يقوَّى ويدعّم، والخطأ يقوَّم ويصلح، فعالم الإسلام العملي فيه الصواب وفيه الظلم، فيه الصدق وفيه الكذب، وكلٌّ له مقامه في الإسلام.

الإسلام يعترف بوجود الخطأ كوناً، ولا يلغيه في الخلق والوجود ولذلك أنزل الله تعالى الحدود وأنزل العقوبات، وأنزل الأحكام، والخطاب الرباني في ذلك كلِّه للمجتمع المسلم الموحّد المجاهد وليس هو خطاب لغير المسلمين.

على الرغم أن عصر الفتنة بين علي رضي الله عنه وخصومه (عائشة ومعاوية رضي الله عنهما ) هو عصر نَكِلُ فيه أصحابه إلى الله تعالى، ولا نقول فيه إلاّ ما جاءنا عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم من أحكامه كقولهصلى الله عليه وسلم لعمَّار: ((تقتلك الفئة الباغية)) وغيره من الأحاديث، لكن لو حاولنا استطلاع ورؤية الواقع عن قرب (وهو عصر مبكر وقريب من القرون الخيريّة بل هو منها) لرأينا هولاً، ولرأينا من الأمور التي تشيب لهولها الأطفال، انظر:

1 - الخوارج (أربعة آلاف رجل مقاتل قرّروا قتال عليّ رضي الله عنه وثلاثة آلاف في الكوفة قرّروا عدم قتاله ولا القتال معه) طلب منهم عليّ رضي الله عنه أن (نمضي إلى قتال عدوّنا وعدوّكم معاوية)، لكنّهم يرفضون حتّى يعلن اعترافه بالكفر والتّوبة عنه، فيقيم لهم عليّ رضي الله عنه ملحمة في النّهروان بعد قتلهم عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ وزوجته الحامل، فقَتَلهم ولم ينجُ منهم سوى (400) رجل جريح.

2 - معركة الجمل في الخريبة قرب البصرة [حسب رواية عمر بن شبة] وهي معركة بين مسلمين بل بين القبائل نفسها (مضر ضدّ مضر وربيعة ضدّ ربيعة ويمن ضدّ يمن) إخوان في الدّين والمنهج والنّسب، وقُتِل فيه طلحة والزّبير (المبشّرين بالجنّة).

3 - معركة صفّين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، معركة حصل فيها مجزرة مع أنّ بعض النّاس حرّضوا على الصّلح وقالوا: "من لثغور الشّام بعد أهل الشّام؟ من لثغور العراق بعد هلاك أهل العراق، من للذّراري والنّساء، ألا تذكرون الأرحام؟" وبعيداً عن ضعف الرّوايات التي ذكرت الهول في القتلى لكن بلا شكٍّ أنّ القتل كان عظيماً.

4 - ردّة بعض النّصارى بعد إسلامهم حتّى قالوا: والله لدينُنا الذي خرجنا منه خيرٌ من دين هؤلاء الذين هم عليه، ما ينهاهم دينهم عن سفك الدّماء وإخافة السّبيل وأخذ الأموال. [الطّبريّ]، وقاتلهم عليّ على الردّة.

ثمّ بعد ذلك كلّه عام الجماعة، ثمّ حرب عبد الله بن الزّبير، ثمّ... ثمّ...

فهذا جانب من حركة الإنسان (أي الإنسان) لا ينبغي أن يُنسى أو توضع عليه الأيدي لنُفهم النّاس أنّ حياة المسلم كلّها قيامُ ليل، وصيامُ نهار، وعفوٌ متكرّر، وعطاءٌ متكرّر، وخيرٌ دائم حتّى اصطبغت صورة الوليّ في خيال الإنسان المسلم على هيئة الغاز المثالي، أي الذي لا وجود له [انظر «المتهاجرون» أي من مات من الصّحابة والتّابعين وهو مهاجر لصاحبه حتّى مات في المعارف لابن قتيبة ص550].

الوليّ هو إنسان.. إنسان.. بشر.

المجاهد هو إنسان.. إنسان.. بشر.

أمّا تصوير صورة الإسلام العملي وعالم الإسلام والمسلمين على صورة أفلام الكرتون أو عالم الجنّ والملائكة فهي صورة تُهين الإسلام أكثر ممّا ترفعه.

إنّنا نقول هذا لأولئك القوم الذين يعطّلون عظائم الأمور ويوقفونها لمجرّد بعض الأمور الصّغيرة، فحساسيّتهم أمام الأخطاء تجعلهم يضعون العصبة على عيونهم لحجبها عن رؤية الخير والنّعمة والفضل الإلهيّ.

إنّ الجهاد في سبيل الله تعالى حركة بشريّةٌ، وحركة من أجل السّلطان والمُلك، ففيه تتداخل كلّ انفعالات الإنسان، ومن دعا للسّيف أو حرّض على السّيف، فلا ينتظر أن يناقشه النّاس ويحاربوه بالخطب الرّنّانة والورق الصّقيل، بل عليه أن يحضّر نفسه ليذوق حرّ السّيف، هذه هي سنّة الله تعالى، وللذّكر فإنّ الخلفاء الثّلاثة (الشّهداء) ما ماتوا بيد الكفّار بل ماتوا بيد مسلمين (فسقة، مبتدعين) فأبو لؤلؤة الفارسيّ ليس من أهل الشّرك (ومحاولة إثبات مجوسيّته دونها خرط القتاد وإن نُسب إليها) وأبو ملجم من الخوارج (ولم يكفر أوائلهم إنّما الخلاف فيمن أتى بعدهم)، والثّائرون على عثمان (بعض قادتهم صار من قادة جيش عليٍّ رضي الله عنه).

ولذلك من وضع رجله ويده في هذا السّبيل، سبيل إعادة سلطان الله تعالى إلى الأرض بالجهاد في سبيل الله تعالى، ووقف نفسه للتّحريض ضدّ الطّواغيت، وإزالة عروشهم، ودكّ طغيانهم، فهذا رجل نهايته معلومة، وإن لم يحضّر نفسه لذلك فهو رجل مستريح (أي لاعقل له) فهذا طريق نهايته إمّا بَرْد العدل أو حرّ السّيف.

نعم يسعك أن تُنشئ مجلّة أو نشريّة لتكوِّن حزباً معارضاً، وحزباً ترقيعيّاً تطلب الإصلاح وتنتظر الفرج بإخراج المساجين، أو موت ملكٍ ليأتي غيره فربّما يكون خيراً منه، فحينئذٍ أمرُكَ سهلٌ وهيّن، فأنت رجل سياسة وكلمة، وملفّك عندهم لا يعدو أن تكون معارضاً محترماً، أي تحترم حدود المعارضة السّياسيّة.

أما وقد قلت: الجهاد والقتال، فما عليك إلاّ أن ترتقب، فلست أنت بخير من أسلافك الأخيار، ولست أنت بخير من أقرانك، فليس عبد الله عزّام عنك ببعيد، وليس الشّيخ عمر عبد الرّحمن عنك ببعيد، وليس الشّيخ أبو طلال القاسميّ عنك ببعيد، وليس الشّيخ أنور شعبان عنك ببعيد، وليس أبو عبدالله أحمد عنك ببعيد، وليس... القائمة طويلة يا عبد الله ويكفيك هذا.

فهذا أمر تشيب له الولدان، وليس له إلاّ الرّجال، ففكّر كثيراً قبل أن تخوض، وإيّاك أن تقول: لقد ورّطوني، فما ورّطك أحد، فنحن لم نضمن لك حصول الوزارة والمنصب، ولم نضمن لك ملائكة تجاهد معك لا يخطئون، ولم نضمن لك مسدّساً ينزل من السّماء يعرف المؤمن من الكافر والسّنّي من البدعيّ، ولم نضمن لك نبيّاً قائداً يوحى إليه، فقد نقول لك اليوم قولاً ونرجع عنه غداً، ونقول لك: هذا ما رأينا، وما شهدنا إلاّ بما عَلِمنا وما كنّا للغيب حافظين، فإن أردت (الغاز المثالي) اصعد القمر، فإن أعجزك فالكثير من النّاس قد سلكوا سبيل السّلامة وجلسوا كالعصافير مع أبنائهم في أعشاشهم، يأكلون ويشربون ويرقبون الحياة من وراء زجاج بيوتهم، هذا في وقت المدافع، فإذا سكنت سيخرجون علينا بمواعظهم العظيمة ليقولوا لنا: لقد قلنا... وقد توقّعنا... وقد أنذرنا... وقد.. وقد... ألسنة طويلة نسأل الله تعالى قصّها.

{سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير}.

إنّ الكثير من المُقعَدين يُتقنون نقد لاعبي كرة القدم، ولكنّهم أصحاب أصوات عالية في قيادة المعركة على كرسي النّظارة، وهم شهد الله يعرقون ويتصبّبون عرقاً وتُبحّ أصواتهم لكنّهم يلعبون كرة القدم بأيديهم.

والله الموفّق

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws