بين منهجين "87"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
كم هو عظيم هذا الإسلام، وكم هو محتاج لرجالٍ عظماء ليرفعوا شأنه في هذه
الدّنيا!.
حينما يستقرّ في نفس رجل مؤمن أنّ عليه أن يبذل نفسه وروحه
في سبيل هذا الدّين، فإنّ عليه واجبُ النّظر الصّحيح والتّفكير الصّائب أنّ
سنن الله تعالى لا تُحابي أحداً ولا تختلف بسبب نفسيّته الرّائعة {ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يُجْزَ به} فالسنن الإلهيّة
حاكمة على البشر جميعاً مؤمنهم وكافرهم وما أعظم ابن تيميّة رحمه الله تعالى
حين قال: "إنّ الله لينصر الدّولة الكافرةَ العادلةَ ويُديمُها ويَهزِمُ
الدّولة المسلمة الظّالمة ويُزيلها"، وهذا من تمام فقه الرّجل، فإنَّ العدل
هو قوام الملك، وبهذا نعلم أنّ السّنن سَتعملُ عمَلَها بإجراء الله تعالى لها
رغم أنفِ البَشَر جميعاً قال تعالى: {إن تكونوا تألَمون فإنّهم يألمون كما
تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} فالمسلم يألَمُ ويقع عليه ما يقع على
النّاس من جريان السّنن الإلهيّة ولا تتخلّف عنه بحجّة أنّ نيّته طيّبة
ومقصده حسن وغايته رضّية، وهذا داخل في شروط العمل الصّالح (أي متابعة السنّة
وعدم معارضتها) فإنّ من شروط العمل الصّالح أن يكون موافقاً لسنّة النّبيّصلى
الله عليه وسلم التّشريعيّة، وما السّنن التّشريعيّة إلاّ موافقة للسّنن
الإلهيّة الكونيّة، فما من سنّة أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ
وهي تعالج سنن هذه الحياة وتحقّق للمرء إرادته الصّالحة ونيّته الطّيّبة،
فبهذا يحقّق الوعد الإلهيّ بتحقيق مصالح في الدّنيا وتحصيل الأجر الأخرويّ
يوم القيامة، فهو سعيد في دنياه وسعيد في أخراه، ولكن لا يظنّنّ أحد أنّ
سعادة الدّنيا هو بتحقيق كثرةِ المالِ والعَرَضِ والمنصِب، فهذه ليست بشيء في
إرادة الرّجل المسلم، فإنّ إرادته مصروفة بنيل الشّهادة، وهكذا يتقلّب المرء
في سنّة الله بمتابعة سنّة النبيّصلى الله عليه وسلم .
إنّ السّنن
الإلهيّة لا تُحابي أحداً ولا تتخلّف لأمنية رجلٍ كائناً من كان، وهذا من
تمام رحمة الله بعباده، فإنّ الدّنيا دار سنن لا يجوز تركها أو معارضتها، فهي
تطحن من وقف أمامها أو تلعّب بها أو تغاضى عنها بحجّة انشغاله بصلاح قلبه أو
بأوراد ذكره وعبادته، والغفلةُ داءٌ مُهلك وهو يعتري أكثر طيّبي القلوب من
هذه الأمّة، وكان من شكوى أهل الحديث في تحقيقهم لصحّة الأحاديث أنّ أكثر
الأحاديث الصّحيـحة تسري بين هذا الصّنف من النّاس، ولذلك صحّ عن الإمام مالك
- رحمه الله تعالى - قوله: "إنّي لأردّ أحاديث أقوام وأرجوا دعاءهم لي"، فهو
يردّ حديثهم لغفلتهم ويقبَل دعاءهم لكثرة ذكرهم وعبـاداتهم، ومن هنا وقف
الكثير من النّاس موقف العداء من النّاصحين لإخوانهم بإحسان العمل وإتقـانه
على وجه يتطابق مع سنّة الله تعالى بحجّة أنّ هذا لا يُعرَفُ من فقه السّلف،
وفقه السّلف هو ليس فقه أهل الفقه والحديث، فإنّ هذا فقه الأحكام الشّرعيّة،
أمّا كيف يكون العمل موافقاً لسنّة الله التّكوينيّة فهذا يُرجَع فيه إلى أهل
الخِبرة والـتّجربة ممّن درسوا هذا العمل وعرفوا تكوينه على وجهٍ يوافق الوضع
الإلهيّ له في قَدَرِه وخلقه، وعلى هذا ففِقه السّلف الحقيقيّ في هذا الباب
هو فقه الصّحابة رضي الله عنهم لأنّهم هم وحدهم مَن جَمَع الإتقان السننيّ
للكونيّات والفَهمَ السّننيّ للشّرعيّات فاستحقّوا الولاية الدّينيّة
والولاية الكونيّة، وما حدث بعده هو الافتراق بين هاتين الولايتين كما ذكر
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولهذا واجب على أهل الولاية الكونيّة
أن لا يتمادوا في دراساتهم بعيداً عن أهل الولاية الشّرعيّة، ولا أهل الولاية
الدّينيّة أن يترفّعوا عن الإذعان والتّعلّم من أهل الولاية الكونيّة، وأنّه
لا يصحّ ولا يكون رفعة الإسلام إلاّ باجتماع هاتين الولايتين، واجتماعهما في
شخص واحد في مثل هذه الأزمان اجتماع صعب، ولكنَّ رحمة الله تعالى ليست ببعيدة
في تحقيق الوعود الإلهيّة بالهداية التّامّة لبعض عباده، ولكن لتشعُّب الحياة
وكثرة ما فيها من جديد في اكتشاف النّاس لسنن الكون تجعل اجتماع الوعي الكامل
عسيراً على العقل الواحد.
وهذا الّذي شرحَتْه وبيّنَته كتب الأصول وهي
شاهدة عليه فإنّ ما يسمّى عند أهل الأصول بتحقيق المناط هو في حقيقته يعني
معرفة الشّيء وفهمه على حقيقته، حتّى تتعرّف صفته وهيئته وما فيه من سنن الله
تعالى، وهذا لا يستلزم في تحقيقه أن يكون الرجل صاحب الولاية الدّينيّة، وقد
ذكر هذا الإمام الشّاطبي - رحمه الله تعالى - في «الموافقات»، وقد ذكر ابن
القيّم في «الإعلام» وغيره أنّه لا يجوز الفتوى حتّى يتم للفقيه معرفة
الواقع، الواقع ليس هو أخبار الواقع ولكن الواقع الأهم هو سنن الله تعالى
وخلقه وكونه.
افتراق الولايتين: الولاية الدينيّة والولاية الكونيّة
تصنع فصاماً نكداً في حياة المسلمين، ولذلك كان الحكّام والقادة على الدّوام
بحاجة إلى نصائحِ العلماء وفِقههم وإرشاداتهم، وكان العلماء بحاجة إلى سَيفِ
الحكّام لحمايتهم وإسعاد شؤونهم وتسهيل معاشرهم وحماية بيضة
الأمّة.
أمّا هذه الأيّام فالأمر جدُّ مخزٍ ومُتعب، كلّ فريقٍ رضيَ
لنفسه الإمامة النّاقصة فوقع المحظور بتخلُّف النصر الإلهي والوعد المرتجى،
ولن يكون للأمّة قياماً ورفعة إلا بعقل جمعي يُشرك غيرَه في الشُّورى والبحث
ويكون رأيه ملزماً في ما يَفهَم فيه ويُتقنه، فليس هذا عصر الرَّجل الذي
يعادِلُ ألفَ رجل، وليس هذا زمان الرَّجل الذي يكون صَوتُه في الجيش خيرّ من
ألف رجل مع أنّ وجود هذا الرجل ضروري وواجب في الجيش والحركة، ولكنَّ فهم مثل
هذه الأحاديث على درجة االاستقلال في تحقيق النّتائج هو فهم صبيانيّ وساذج،
فإنّ الشجاعة هي قوَّة الإرادة وهي شِقٌّ من شقَّين لتحقّق العمل ووقوعه
والشق الآخر هو القوّة، بل إنّ الإرادة القويّة لا تَنتُج إلاّ بشقّين هما
قوّة الرَّغبة والعلم، إذاً فقُوَّة جَنَان الرجل وشجاعته هي جانب وحيد من
جوانب متعدّدة في تحقيق النصر أو الوعد الإلهي، فانظر لهذا وتفكّر فيه،
وإيّاك والشِّعارات التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع وعليك بما كان عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فإنّهم هم الرّجال، وهم
الّذين يُقتدى بهم في فهم دين الله تعالى وكيف يتحقّق في الأرض.
لقد
كتَبَ من كَتَبَ من الأوائل في إبراز عامل الشّجاعة وحب الدّار الآخرة في
تحقيق النّصر وقلّما رأينا من كتَب في إبراز عامل الفهم والتّعامل مع السّنن
الإلهية والقيادة الواعية في تحقيق هذا النّصر، ومن هنا فالمعركة إدارة وليست
طلقات فقط وتحسم المعركة، ولكنّها طلقاتٌ تسير ضمن قانونٍ سننيٍ دقيق تجمع
معها إدارة شاملة وحنكةً راقيةً ووعياً رفيعاً وهدايةً ربانيّة ودعاء
مظلومين والْتِجاء صالحين لسيّدهم في الأسحار كل هذه أجنحة مهمّة لتحقيق
الموعود الإلهي.
إنِّي على ضعفي وقلّة حيلتي وقلّةِ إدراكي فإنّي
أقول إنّنا مازلنا في القاع، ولم نخرج بعد من الفهم الغنوصي للسنن والحياة،
وبيننا وبين الفهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم لأميال
وأميال، ولمّا نفهمُ فهماً صحيحاً ثمّ تتحرّكُ إرادتُنا بعلمٍ صحيحٍ (للشرعي
والكوني) ورغبةٍ في الدّارِ الآخرةِ ونملكُ ما أمر الله تعالى به من القوّةِ
حينها ستُفتح علينا خزائن الله متفجِّرةً بتحقيق الوعود
والمُبشِّرات.
لسنا على استعداد أن نتوقّف ويكفينا أن نذهب إلى
الأخدود كما ذهب أصحاب الأخدود وعلينا أن نحضِّر أنفسنا لذلك، فالطريق ما
زالـت بعيدةٌ عن التَّمكين في الأرض، ولكن لنجعل الطّريق إلى السّماء بحصولِ
الشَّهادة (وهي طريق جدُّ قصيرة) خطوة ندفع بها إسلامنا إلى الأمام لتأتي
الأجيالُ القادمةُ فترى طريقاً معبّداً، ومعالِمَ واضحة، فتأخذ بها لتحقيق
التمكين في الأرض.
لقد قلتها قديماً وأقولها اليوم وغداً: هذا الطريق
في هذا اليوم أقرب إلى الأخدودِ مِنه إلى النَّصر والتَّمكين، لكنّنا بما
يصنع إخواننا من بطولات استشهاديّة على أرض الجزائر وعلى أرض ليبيا وعلى أرض
فلسطين، وفي كل مكان، وما يكتبه المصلحون من أصحاب الوِلاية الكونيّة أو
الولاية الشرعية وكلُّ ناصحٍ ستكون غذاءً وزاداً لمن يأتي بعدَنا ليقع على من
يختاره الله تعالى بتحقيق النَّصر والتَّمكين.
فاللهم تقبّلنا في الصالحين
|