منبر التوحيد والجهاد
طبع المادة كاملة 1 ...
بين منهجين "90"
   بين منهجين "90"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني

لأهل الهوى الأرائتية ضروب من التفنّن المنطقي في صرف حكم الله من إيقاعه على وجهه الصّحيح، فمرّة يدخل عليهم من باب الذّوق النّفسي فيجعلونه حاكماً على الشّريعة، وهذا منتشرٌ بين كثير من النّاس حين يجابهون الحكم الشّرعي بعدمِ اطمئنانهم له، فيقول لك أحدهم: أنا لا أطمئنّ لهذا الحكم. أو قول بعضهم: إنّ نفسي لا ترتاح لهذا الرأي. وليت قائلاً هذا القول قد تضطلع بالسنّة، وتشربها حتّى ملأت عليه جوانحه ومشاشه، بل هو رجل لم يمرّ على السّنة إلاّ لماماً، وأخذ منها حديثاً أو حديثين، ولم يقرأ القرآن قراءة دَرسٍ وفهم، بل هذّاً سريعا، فكيف لمثل هذا الرّجل أن يكون رأيُه قريباً من السّنّة، أو يكون مزاجه قريباً من الحقّ؟!!، وللذِّكر فإنّ مَن جعل ذوقه حاكماً على الشّريعة يحسِّن ويقبّح من جهة نفسه وهواه فهو كافر زنديق، فليحذر المرء من هذا الباب فإنّه من باب القول على الله تعالى بلا علم، وهو أعلى مرتبته من الشّرك كما قال تعالى: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف]، فانظر حفظك الله تعالى إلى ذكر مراتب المعصية وكيف رتّب الله درجتها حيث جعل أعلى المعاصي هي القول على الله بلا علم - نعوذ بالله من الخذلان - ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام طيّبٌ في بداية كتابه الإستقامة فارجع إليه فانّه مهم.

وقد قلنا سابقا إنّ من صوارف الشيطان الظنّية في ‎إبعاد النّاس عن الحكم الشّرعي هذه الأيّام ما يسمّى بالتحليل السّياسي، وهو باب غريب وللنّاس فيه مذاهب وطرق تحار فيها حينا وتعجب منها حينا، وقبل أن أبيّن معارضة هذا الظّني لقواعد الأصول فإني سأمرّ مروراً سريعا في تحديد بدايات هذا المأخذ الشّيطاني في محاولة منّي لكشف مصدره.

أعتقد أنّ أوائل أو أسياد هذا المذهب في بلادنا هم اليساريّون، فهم الّذين فتحوا هذا الباب ليخدِموا به مذهبهم وطريقَتَهم، فهم في سبيل إقامة الثورات ضدّ الحكومات (اليمينيّة) أو الحكومات (الرّجعيّة) كما يقولون، جعلوا يردِّدون صباح مساء، وفي كلّ موطنٍ أنّ حكوماتنا هي حكومات عميلة للغرب، وخاصّة لأمريكا الجديدة وبريطانيا القديمة، وبريطانيا ومن معها من الدّول الاستعماريّة التّاريخيّة ثمّ مَن لحق بها من العالم الجديد كأمريكا لها حضورٌ سيّء قبيحٌ في أذهاننا، وهذا الحضور سببه تلك الآثار السّيئة والتي لا تزال شاهدة على هذا السّوء وإلى يومنا هذا، من مِثل هذا التّفرّق والحدود التي اصطنعتها في بلادنا، ثمّ النّهب السيّء لخيرات بلادنا، ثمّ تاريخها مع فلسطين واليهود، فالعقل المسلم مليء ولا شكّ بهذا الواقع السيّء في تاريخ الغرب في بلادنا، فبمجرّد أن يلوّح الخطيب بارتباط جماعة أو فرد بالغرب كافٍ بأن يسقط من عين النّاس واحترامهم.

هذه بدايات ربطِ أيّ عدوٍّ لك إن أردت تدميره بأنّه عميلٌ وبالتّالي صارت هذه الكلمةُ تقالُ - عالفاضي والمليان - كما يُقال، فما أن يقوم انقلاب في بلادنا حتّى يبرّر الانقلابيُّون أنّهم وطنيّون، وأنّ سلفهم عملاءُ للإستعمار، وكفى بذلك مبرّراً.

هذه البداية الصّغيرة تطوّرت في تفسير أحداث الكون حتّى صار مشهوداً بين النّاس المثل القائل: لو رأيت السّمك يُقتل في البحر ففكّر بالإنجليز. ومع قليل من التّهويل صار المسلم كلّما قرع له بالشّنان فكّر بالأيدي العميلة المدبّرة لأحداث الكون وأحداث الحياة، فليس هناك ثَمّ صغيرةٍ أو كبيرةٍ فوق هذه الأرض وفي داخل البحر إلاّ وللدّول الكبيرة لها فيها يدٌ، وصار المجتهد الجهبذ هو من يُبعد لك النّجعة في تحليل الخبر وتفسيره ضمن هذا السّياق في فهم هذه الأحداث، وهناك بعض الكتب ساهمت في صنع هذه العقليّة بغضِّ النّظر عن صواب بعض أحداثها وتحليلها أم لا، مثل كتاب «حكومة العالم الخفيّة» وكتاب «أحجارٌ على رقعة الشّطرنج» ومثلها كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» وكتاب «لعبة الأمم» وغيرها من الكتب، فإنّ هذه الكتب أوحت لقارئها (المؤمن بما فيها) أنّ أحداث الكون بصغيرها وكبيرها هي مُحاطة ومرسومة من قبل عالم خفيٍّ!، بعضهم أطلق عليه الماسونيّة وبعضهم قال هي حكومة أندية الرّوتاري وغيرها وغيرها الكثير، وعقليّة المسلم المتخلّفة رأت في نفسها التّطوّر للخروج من تحليل الأحداث على قاعدة الجنّ والشّياطين إلى عالم المؤامرة والحكومات الخفيّة، فبدل أن تكون صوفيّة متخلّفة تُحلّل الأمور أنّها من فعل الجنّ والشّياطين فهذا تخلُّف، فالعِلميَّة هي تسمية هذا العالم بالحكومة الخفيّة.

وقبل أن أتمّم فكرتي فإنّي مضطرّ أن أقول معتقدي قبل أن يرفع بعضهم في وجهي الكرت الأحمر فيُفهم من كلامي أنّي أنفي عالم الجنّ والشّياطين وأنَّ لهما صلة بواقعنا، أو يُفهم من كلامي أنّي أنفي مبدأ وجود الأعداء المخطّطين ضدّ الإسلام وأهله، فأنا بفضل الله تعالى مازلت في مكاني لم أبرح عليه عاكفاً.

أي أنّي أعتقد بوجود عالم الشّياطين في الجنّ والإنس، وأعتقد قوله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} ولكنّي لا أعتقد أنّ محمّد علي كلاي كان ينتصر لأنّه كان يستعين بجنٍّ مسلم يقاتلُ معه ضدّ جو فريزر الذي كان يستعين بجنٍّ كافر يلاكم معه، وكذلك لا أعتقد أنّ حافظ الأسد عميل أمريكيّ، ودليل ذلك أنّ فهد بن عبد العزيز ليس عميلاً لبلاد الواق الواق (معادلة تحتاج إلى محلّل سياسي بعيد النّظر في تفسيرها، ومن حقّي أن أُتعب المحلّلين كما أتعبوني في عدم فهمي لبعض نتائجهم).

المهمّ أنّ المناط الوحيد الذي صار يعلّق النّاس أحداث الحياة عليه هو العمالة وتخطيط الحكومة الخفيَّة، والارتباط بإحدى أقطاب الصّراع في العالم، وكان أئمّة هذا الشّأن من الجماعات الإسلاميّة هم حزب التّحرير، فإنّه مافتئ يردّد للنّاس من خلال نشراته أنّ الصّراع بين أمريكا وبريطانيا على أشدُّه في اكتساب العالم العربي، ولم يخرج رئيسٌ ملعونٌ أو حاكم مرتدّ أو رئيس قبيلة أو قائد تنظيم من هذه المعادلة الجديدة، وما من معركة تقوم ولا انقلاب يحدث إلاّ ضمن هذا السّياق وهذا التّحليل، فهذا بلد محكوم لأمريكا والانقلاب قام من أجل عمالة بريطانيا، وهذا بلد عميل لبريطانيا وما الانقلاب إلاّ من أجل عمالة أمريكا، وهكذا ما من حدثٍ إلاّ ضمن هذه المعادلة، لا يخرج عنها شيءٌ البتّة، وانتشر هذا التّحليل حتّى عند صغار النّاس وصار الوعي الكامل والفهم الثّاقب من يستطيع أن يبرهن لك على أنّ هذا الحدث ضمن معادلة دوليّة، وعمالة خفيّة. وللذّكر فإنّ هذا النّوع من التّحليل لا يرى للمعسكر الاشتراكيّ (يوم أن كان معسكراً) ثمَّ وجود له في المنطقة. وقد استخدم بعضهم نفس الأسلوب ضدّ حزب التّحرير فاتّهمه أنّه عميل بريطانيّ، فانقلب السّحر على السّاحر، وصدق من قال:

أعـلِّمه الرماية كل يوم * فلمّا استد ساعده رماني


وفي المقابل هناك قومٌ يحلِّلون الأمر على جهة الحكومة اليهوديّة: هنا يهود، وهناك يهود، فهذا بلدٌ صنعه اليهود، وهذا حزبٌ وراءه اليهود، فاليهود هم قادة الأحداث كلّها في هذا الكون.

وقد قابلت أقواماً يحلّلون كلّ شيء على مناط الشيوعيّة، فكلّ من حارب الدول الديمقراطيّة واليمينيّة هو شيوعي - علم أم لم يعلم - فهو يرى أن الشيخ سلمان العودة وسفر الحوالي هما صنيعة شيوعيّة لأنهما يحاربان الدولة التي ما زالت أقدامها راسخة في محاربة المد الشيوعي، وهذا تيار موجود في الأردن وله رجاله وله مذهبه، بل إنه يرى أن كل من تكلم على الحكام وكشف شرَّهم وحرّض الأمة على الخروج عليهم هو صنيعة يهودية - علم أم لم يعلم - ويحللون أحداث الكون على هذا النَّسق وهذا النفس وهذه المعادلة، وهكذا تتغير التفسيرات ولكنها تبقىضمن إطار واحد ونوعٍ واحد وهو التفسير التآمري للأحداث.

أمَّا مايهمّنا فهو خطورة هذه الطريقة في فهم أحداث الكون والحياة، وبالتالي ما يتعلق بها من أحكام شرعية.

لو نظرنا إلى أدلَّة هؤلاء المحلِّلين لرأينا هشاشة أدلتهم وعدم قبولها إلاّ للأطفال والصِّبية، فبعضهم يجعل فلاناً عميلاً بمجرد أنّه رآه مشترياً مجلّةً فيها صورة لحاكمٍ من الحكَّام، وبعضهم يجعل فلاناً عميلاً لأنّه رآه اشترى حذاءً من صنع الدولة المعنية، وهكذا..، فلمّا كانت هذه الأدلّة لا تُقبل ولا تَصلُح، ثمّ كانت العمالة عندنا تعني الولاء والنصرة وبالتالي فمن كان عميلاً لدولة كافرة هو كافر مثلها، وحكمه في دين الله تعالى هو القتل، وهذا هو حكم الجاسوس عند جمهور العلماء، كان إطلاق لفظ العمالة والجاسوسيّة على رجل أو حركة خطير جدّاً لايصلح معه اللعب والفهلوة، نعم عليك بالحذر والكَيَس والفِطنة ولكن عليك أن لا تكفّر الناس بالظنّة، فالأمر خطير.

هذه مسألة أولى تتعلق بأولئك القوم الذين يضربون بالمَندَل ويدَّعون علم السِّياسة فيستسهلون القول بأن فلاناً أو تلك الحركة أنَّها عميلة للطواغيت، فليعلموا أنَّ معنى حكمهم هذا هو تكفير هذا الفرد وهذه الطائفة وتجويز قتله وقتاله لأي أحد من المسلمين.. هذه واحدة.

أما الثانية: فهي ما قدّمنا في الحصّة الفائتة في إبطال أي عملٍ جهادي ضدّ طاغوت من الطواغيت..

فالمجاهد لصدّام حسين عميل للسعوديّة.

والمجاهد للسعوديّة عميل للشيوعيّة.

والمجاهد لسوريّة عميل لأمريكا وإسرائيل.

والمجاهد لليبيا عميل لأمريكا.

والمجاهد للجزائر الفرنسيّة عميل لبريطانية.

والقائمة تتمّتها عندك، وبالتالي فلا جهاد لئلاّ تكون عميلاً، أمّا ديننا فيقول: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة}.

والله الموفّق

منبر التوحيد والجهاد
www.tawhed.ws