بين منهجين "85"
المؤلف: أبو قتادة الفلسطيني
إنّ رماح الخير والهدى تزداد انتصاباً يوماً بعد يوم، ويشتدّ عودها بعد
كلّ امتحان وتجربة، وقد بدأت جذورها تمتدُّ محطِّمة العوارض مهما تضخّمت،
وتفتِّق الصّخور مهما صلبت، وها هي الجماعة الإسلاميّة المسلّحة تنشر للنّاس
منهجهاً، وهو نَفَسٌ على غرار أنفاس أخواتها من جماعات الهدى، فقد اطّلع طلبة
العلم وشباب الجهاد على كتاب «العمدة في إعداد العدّة» ثمّ كتاب «الهادي إلى
سبيل الرّشاد في معالم الجهاد والاعتقاد» لجماعة الجهاد في مصر، ثمّ اطّلعوا
على «معالم الطّائفة المنصورة في عقر دار المؤمنين» (بلاد الشّام) لعبد الله
كاتب هذه السّطور، ثمّ كان كتاب «الخطوط العريضة لسرايا المجاهدين» للشّيخ
أبي المنذر السّاعديّ والذي أصدرته الجماعة الإسلاميّة المقاتلة (ليبيا)، وها
هي الجماعة الإسلاميّة المسلّحة تلحق بالرّكب في إخراج هذه المعالم والتي
فيها الأجوبة لكثير من الأسئلةِ التي تدور على ألسنةِ النَّاس، والكتيِّب
كبقيّة الكتُب التي ذكرت، فيها النَّفَس السّلفيّ والمزاج السّلفيّ علاوة على
المنهج السّلفيّة، فكاتبه يضع النّقاط على الحروف في فهمه لحقيقة المعركة على
أرض الجزائر وفي بقيّة أراضي المسلمين التي سُلِبت منهم وهذه أهمّ نقطة في
الباب، وهي أنّ المعركة هي جهاد الموحّدين لطائفة الردّة فيعاملوا معاملة
المرتدّين (من غير جمجمة)، وكذلك فيها تجريد الرّاية التي لطالما انتسب إليها
غير أهلها أعني الرّاية السّلفيّة، فإنّ حرص الجماعة على هذه الرّاية لهو خير
دليل على خير هذه الجماعة وفضلها إن شاء الله تعالى.
فالجماعة جماعة
سلفيّة المنهج وسلفيّة الفهم وسلفيّة الحركة والسّلوك، لا تقيم للفكر المنحرف
شأناً ولا ترفع للذّوق المهترئ رأساً، ولا تتعامل إلاّ بضوابط وفهم السّلف
الصّالح، ((خير أمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم)) وهذا هو
المهمّ والضّروريّ في فهم الرّاية وتحديدها، فلا عزّة للأمّة إلاّ بذلك، ولن
تعود الأمّة لسابق عهدها إلاّ إذا صلحت كما صلح الأوائل، ولن يصلحها إلاّ بما
أصلح الأوائل: الكتاب والسنّة على فهم مخصوص ومنهجٍ مخصوص وطريقةٍ مخصوصة،
وليس على أفهام ومبادئ وطرقٍ بدعيّة، وقد أدركت الجماعة خطر الصّوفيّة وأثرها
على الأمّة، فهي التي نشرت البدع وأفسدت المزاج وعطّلت الإرادة، وما هذا
الخنوع والذّلّة، وما هذا الجبن والخوَر إلاّ أثراً من آثار الفهم الصّوفيّ،
حتّى إنّ كثيراً من الذين يزعمون السّلفيّة ويرفعون رايتها كأصحاب التّصفية
والتّربية هم في الحقيقة يبنون مناهجهم على فهم صوفيّ للحياة وحركة التّغيير،
ثمّ هي خرجت من شرنقة المناهج البدعيّة كالأشعريّة، وهي التي لو جلس العادّ
والمحصي السّنين ليعدّ آثارها على أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ما استطاع
الإحصاء والعدّ، فعلم الكلام هو الذي دمّر العقليّة الإسلاميّة، وهو الذي
أفسد مناهج الفهم والتّفسير لعالم الغيب وعالم الشّهادة وشرحُ ذلك يطول،
ويستطيع المرء العاقل والذي خرج من ربقة التّقليد أن يبصر ذلك بكلّ وضوحٍ
وجلاءٍ.
أمّا فهمُ الجماعة لطبيعة المعركة وحقيقتها فهذا من هداية
الله تعالى لها، حيث فهِمت ما عليه الحكّام وطوائفهم، وأنّهم طوائف كفر وردّة
بسبب ما غيّروا الملّة وبدّلوا الدّين وحكموا بغير شريعة الرّحمن، فهذا هو
واقعنا، وكلّ من يحاول أن يهرب من هذا التّوصيف إلى عبارات فضفاضة تتّسع له
إن أراد النّكوص على عقبيه فهو محجوج بالحجّة في الدّنيا والآخرة، وصار لله
عليه سبيلاً، فهذا فهمُ المرء المسلم وهذا هو الوصف الشّرعيّ لعدوِّه، فإن
كان كذلك فإنّه سيكون بصيراً لنوع المعركة التي يخوضها، فالذي أمامه هو مرتد،
بل مرتدّ ردَّةً مغلّظةً لا تُقبل له توبةٌ وليس لهم إلاّ الحرب المُجْلية أو
السّلم المُخْزية، فلا حوارَ معهم ولا هدنة ولا صلح، وليس لهم إلاّ أن يحكم
الله بيننا وبينهم - النّصر أو الشّهادة -.
فهذا وصف المجاهدين وهذا
هو وصف أعدائهم، وبهذا تحدّدت الرّاية التي يجب على المسلم أن يتبيّنها
ويكتشفها قبل أن يريق دمه على أصلها محتسباً وجه الله تعالى.
والجماعة
تتبرأ من كلّ المناهج البدعيّة القديمة منها والحديثة، فهي تتبرّأ من عقيدة
الخوارج وأذنابهم من جماعات التّكفير والهجرة، وهي لا تكفّر بالعموم ولا
تعتقد أنّ الأصل في النّاس هو الكفر، بل هي تتعامل مع النّاس على أساس
الإسلام، إذ أنّ هذا هو أصلهم ولا ينتقض هذا الأصل للآحاد والمجموع إلاّ
بدليل شرعيّ لا مدخل فيها للهوى ولا للظنّة المُهلكة ولا لهوس النّفوس وخاصّة
كما يقول بعض الخوارج: إذا كفر الإمام كفرت الرّعيّة. ومن صريح فهمهما لهذا
أنّها تعاملت مع الجزائر على أنّها دار مركّبة من حقيقتين (كما أفتى شيخ
الإسلام في واقع قلعة ماردين): دار إسلام بحسب أهلها وأصل سكّانها، ودار كفر
(حكم الطّائفة المتغلّبة الحاكمة). وهذا من أوضح الأدلّة على أنّ الجماعة لا
تقيم أحكامها على مناهج بدعيّة باطلة، وأنّ الجماعة تتبيّن في كلّ ما تقول
وتفعل إن شاء الله تعالى.
ومن المهمّ التّنبّه على تفاوت حكمها على
الجماعات التي تنتسب للإسلام من أهل القبلة فهي وإن كانت جماعات بدعيّة إلاّ
أنّ البدعة ليست مرتبة واحدة، وحكم البِدعة ليس على نسقٍ واحد، بل البدعة
تتفاوت درجتها، ومن لم يفهم هذا فهو سالك سبيل الهلكة، فحين ذكَرت الجماعة
الإسلاميّة المسلّحة أسماء بعض الجماعات التي أطلقت عليها حكم البدعة فلا
يعني هذا أنّ هذه الجماعات على مرتبة واحدة وحكمٍ واحد، فبعضها فيها البدعة
المكفّرة (كالدّيمقراطيّة)، وبعضها في أدنى درجات البدعة.
إنّ البِدع
منها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهليّة مثل قوله تعالى: {وجعلوا لله ممّا ذرأ
من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} وقوله تعالى:
{وقالوا ما في بطونِ هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا وإن يكن
ميتة فهم فيه شركاء} وقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا
وصيلةٍ ولا حام} وكذلك بدعة المنافقين حيث اتّخذوا الدّين ذريعة لحفظ النّفوس
والأموال، ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختَلَف هل هي كفر أم
لا؟ كبدعة الخوارج والقدريّة والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضّالّة، ومنها
ما هو معصية ويتّفق عليها ليست بكفر: كبدعة التّبتّل والصّيام قائماً في
الشّمس والخصي بقصد قطع شهوة الجماع، ومنها ما هو مكروه: كالاجتماع للدّعاء
عشيّة عرفة وذكر السّلاطين في خطبة الجمعة.
فقول الجماعة عن جماعة ما
أنّها مبتدعةٌ لا بدّ من النّظر إلى مرتبة بدعتها، ودليل الاقتران هنا لا
يُلتَفت إليه بمعنى أنّ ذكر جماعات ما في موطن واحد أنّها مبتدعة، فهي إذا
على مرتبة واحدة، فهذا خطأ لا يخطر إلاّ على بال رجل جاهل.
والجماعة
تتعامل مع التّكفير بحذرِ أهل السنّة وتوقِّيهم فهي تُعمل موانع إلحاق الحكم
بالمعين، إذا وُجدَت هذ الموانع أو أحدها كالجهل والإكراه والتّأويل (وقد
فاتها ذكر عدم القصد (أي قصد الفعل الكفر والمعصيّة))، والجماعة لا تجزّئ
التّوحيد فتعظّم شأنا وتصغّر آخر، وهما في الشّريعة على مرتبة واحدة (كما
تفعل بعض الجماعات) فليس هناك من فارق بين حكم الله تعالى فيما يخصّ النّسك
(كالصّلاة والصّيام والنّذر والذّبح) وبين مايخصّ الولاء والبراء أو بين ما
يخصّ الحكم والتّشريع، فهذا كلّه دين، ونحن نمارس عبادة لله ولسنا جماعاتٍ
سياسيّةٍ لها مقاصد الإمامة فقط دون النّظر إلى جوانب الدّين
الأخرى.
هذا على الجملة منهج الجماعة الإسلاميّة المسلّحة وكلّياتها
وهذا هو الذي يحدّد الراية والغاية، أمّا ما يخص الجوانب الأخرى والتي مبناها
على الاجتهاد مثل تبنّيها لبعض الأحكام الشرعية فهذا ليس مما يتـحدّد به
المنهج، إذ صواب المنهج لا يعني أن يصيب المرء في كل حكم شرعي، فكبار الأئمّة
مثل مالك والشافعي وأحمد وهم من أئمة أهل السنّة والجماعة ومن كبرائهم ومع
ذلك فإنّ لهم من الأقوال المبنية على الاجتهاد والتّحرّي والتي لا تُلزم
أحداً رأياً غير ما رأى أحدهم أو بعضهم، والإنسان المسلم في هذه المسائل
عرضةٌ للضعف والنّقص والخطأ.
فقول الجماعة مثلاً بحرمة تعدد الجماعات
السلفية المجاهدة في الأقطار المتعدّدة، قول وإن بدا للناظر أنه قول جميل
ورائع، بل هو أمل المسلمين باتحاد الجماعات تحت راية واحدة، ولكنّ ليس كل
جميل يمكن تطبيقه، ولو أردنا الآن أن نمنع وجود جماعة مسلمة سلفيةٍ مجاهدة في
بلد ما بحجّة وجود راية لجماعة مسلّحة سلفيّة مجاهدة في بلد آخر لتعطّل الخير
وامتنع الكثير من الفضل لصعوبة هذا المطلوب ومشقّة تحصيله، بل إن الجماعة
الإسلامية المسلحة قد نشأت بعد وجود جماعات مسلمة سلفيَّة وجهادية في بلاد
أخرى فهل نقول بأنّها آثمة إذ لم تلحق بغيرها ابتداءً؟ الجواب: لا، وكلّ ما
ستعتذر به الجماعة من أعذار سواء من عدم العلم أو...أو...هي أعذار لغيرها
كذلك.
فالواجب القول: إنَّه على أهل كلّ بلد أن يجتمعوا تحت راية
واحدة ولا يجوز تعدّدهم ويقدّموا ما قدّمه الشّارع بعلل واضحةٍ صريحةٍ كعلّة
السبق والشوكة و...و، علل أقامها الشارع لفضّ الخصومات، وليكن اعتقادنا (بل
من صميم اعتقادنا) أنّ الواجب على الجماعات الإسلامية السّلفية المجاهدة أن
تسعى لتوحيد الرّاية وجمع شتاتها، هذا فإن عدم هذا الفضل فليس هو بشرط من
شروط صحة الجهاد.
وكذلك قولهم: إنّ الشورى معلّمة ومستحبّة فهذا رأي
اجتهادي فيه احتمال الصواب وفيه احتمال الخطأ ككلّ المسائل
الاجتهادية.
ولكن لنتذكّر أنّ هذه مسائل اجتهادية يسعها المنهج
السلفي، والمنهج لا يكون بالنّظر إلى صواب مسألة اجتهادية أو
خطئها.
هذا ما أردت التنبيه عليه من خلال قراءتي لـ «هداية ربّ
العالمين في تبيين أصول السلفيين وما يجب من العهد على المجاهدين».
والله الموفق والهادي سبيل الرشد
|